آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » طائرة دمشق ـ الخرطوم «سيران سماوي!»

طائرة دمشق ـ الخرطوم «سيران سماوي!»

عامر العبود  |  

لا غربةَ في السماءِ أيُّها الأخوة، لأسبابٍ كثيرة، لا غربةَ في السماءِ التي تفصلُ دمشق عن الخرطوم، حتى الطائرة التي ستحملكم من مطار دمشق، إلى مطار الخرطوم، ما هي إلا سوريا صغيرة تطير في الجو، كأنك في رحلة داخلية!.

في مطار دمشق، عند وصول الباص الذي سيقل الركَّاب من بوابة رقم 7، أو9، إلى الطائرة، سيتدافع الركَّاب، بخبرةٍ منقطعةِ النظير، تعلَّموها من ركوب باصات المزة من شارع الثورة، لكن الصدمة أن الباص بلا مقاعد، سيبقى الجميع واقفين!، في رحلةٍ بريةٍ لن تتجاوز الدقيقين، من البوابة، إلى الطائرة، أضف أنَّ المقاعد في الطائرة محجوزة سلفاً، أي أنَّ الطائرة لن تطير بلا ركّابها، فلماذا التدافع؟!!.

تدافعٌ مشابه على درج الطائرة، بلا أسباب، يثبت أنَّ الركَّاب ينتمون جميعاً إلى ثقافةٍ واحدة، (اللي يسبق يأكل فستق)، حتى وإنْ كان الله هو موزع الأرزاق، ومن بينها الفستق، لكن السباق برتوكول مقدس لدى المقهورين. بعد أن يستقر الركَّاب في مقاعدهم، ستقلع الطائرة، لتبدأ سلسلة من الطقوس السورية، بممارسة ليست استثنائية، بين الأرض، والسماء؛ ستُسمع البسملة والدعاء، المسؤولَين عن وصول الطائرة إلى وجهتها بأمان، أحدهم سيحاول أنْ يأخذ صورة (سيلفي) مع فتاةٍ تجلس خلفه في الصف المقابل، دون أنْ تلاحظ، لكنها ستلاحظ، وستنهره، فيحتفظ بصورةٍ بالكاد ظهرت فيها الفتاة، ليكمل الرحلة مع (الكاندي كراش)، آخر سيحاول إقناع زوجته بسهولة الهجرة من السودان إلى مصر، عن طريق بورت سودان، “يومان وسنكون في القاهرة”، فجأة ستأتي المضيفات مع الطعام، فتغرق الطائرة بصمتٍ مخيف، الكلُّ غارقون في الأكل، أحدهم يدفع بقطعة مخلل لابنه الصغير، لأنَّه لا يحب المخلل، ويأخذ منه علبة اللبن، لأنه يحب اللبن!.

أحد الركَّاب، لعمري فضوله سيقتله، لن يوفر فرصة للحديث مع أي أحد، سيراقب كلَّ حركة، فيُلاحِظُ أنَّ امرأةً في الستين من عمرها، تضع يدها على رأسها، سيذهب إليها فوراً، ويسألها عن حالها، ثم يعطيها كرته الخاص (مختص بالديكور)!، ويخبر أحد العاملين في الطائرة، أنَّ سيدةً تعاني من الصداع، فإذا بهم يتجمهرون حولها، فيزداد صداعها، ستبدأ بوصفِ أعراضٍ، لو كانت صحيحةً لفارقت الحياة فوراً، المهم، سينقلون السيدة إلى الدرجة الأولى، حيث المقاعد المريحة، والضغط المنخفض.

 أنتَ أيضاً لا بد أنْ ترتكب حماقةً صغيرة، ستسكب كأس القهوة على بنطال فتاة بجانبك، لكنها أيضاً ارتكبت حماقة أكبر، حين ارتدت بنطالاً (بيج)، وستقضي ثلثي الرحلة تعتذر عن فعلتك الشنيعة، والفتاة تخفف عنك، لكنك أخيراً ستنطق الجوهرة: “الله يصلحك… البسي أسود من الأول!”، وهنا ستشاهد أن جهنماً تطايرت من عيونها، لكنك ستعبث بأوراقٍ أمامك، لتتهرب من سخافتك.

الطائرة بعد نزول الركَّاب منها، لن تكون كما كانت قبل صعودهم، بل ستكون كحديقةٍ عامة يومَ جمعة، أوساخ في الأرضية، وعلى الكراسي، وعلى الوجوه…، أحدهم سيقرر أنْ يعوض جزءاً من تكلفة الرحلة، فيضع المناديل الورقية في المغسلة، ويفتح الماء عليها، كما أنَّ بعض الأضرار الجسيمة التي لحقت بمقاعد الطائرة، سيتم إخفاؤها بعناية، لكن صمتاً رهيباً سيسود، بمجرد أنْ يصل الجميع إلى شباك ختم الجوازات في مطار الخرطوم، هناك سترى خوفاً نادراً، خوفاً يقضي على الفرح بتدمير الطائرة، خوفاً سيجمِّد كلَ  صِدْفةٍ جميلةٍ في مخيلتك، هو الخوف من العودة إلى الوطن!.

كاتب سوري ـ الخرطوم  |  خاص مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *