آخر المقالات
الرئيسية » نقار الخشب » هوراشيو هاملت، حقارة العلماني الساخر

هوراشيو هاملت، حقارة العلماني الساخر

ملاذ أيمن اليوسف  |

“… صدقني، رأيتها بأم عيني، كانت تختبئ خلف الأشجار البعيدة، فارتعدت خوفاً، رَكَضَتْ أمامي، ثم اختفت، لها وجهٌ لم أرَ مثله في حياتي، وجهٌ بعينين خضراوين وعليه شعرٌ برتقالي تعدى بطوله خصرها النحيل، جنيّة وكأنها صبيّة في العشرينات، أما نهديها …” أكاد أجزم بأنه لا يوجد سوري بلغ سنًّ التكليف الرسمي لخدمة العلم (العسكريّة) لم يختبرها ولو مرة في حياته، إما بسماع قصصها من صديق أدى الخدمة الإلزامية، أو حَظيَ بشرف رؤيتها شخصياً أثناء الخدمة وفي نوبة الحراسة الليلية. هي الجنيّة، اسميها جنيّة الرحمة، لولاها لخيم بؤس الملل على الواقع الصعب هناك، ولما استمرت القدرة على مزاولة عيش روتين الأيام القاسية. والجنّ هو كلُّ ما كان خلاف الإنس، إلا أن الذكورة الطاغية التي تحاصر أصحابها في الثكنات العسكرية، أنّثتها فصارت جنيّة، هي ملاذ الوحيدين، لكل جنديٍ في محرسه جنيّة، يراها فيرتعد ويخاف، تؤنسه بوحشته في ليله الطويل، وتسلي نهاره بقصّ الأحاديث عنها لرفاقه، تلك الحكايات في عمومها مخيفة، إلا أن بعضها رومانسيّ تأسر لبّ سامعها، جنيةٌ تملأ قلب المحرومٍ في محرسه.

لم أختبر رؤيتها وللأسف، بل كان لي نصيبٌ سماع الكثير من قصصها، تختلف فيها الإحداثيات الزمانية والمكانية وأساليب التشويق، أما الخط الدرامي يتكرر (ظهرت- ركضت- اختفت) ما زلت أذكر تهدّج صوت كل من حدثني عن جنيّته، أذكر نظراتهم المشغولة بمراقبة طرفي شفتي خشية أن أغدر الأقصوصة بابتسامة ساخرة، حيث النهاية تعطيك حرية الابتسام  “أنت تعلم أني لا أؤمن بهذه الخرافات، إلا أني أقسم لك أني رأيتُها بعيني هاتين كما أراك” تلك الجنيات التي آنست ليل العساكر خلف المتاريس، اختفت بعد عام 2011 في سوريا ولربما هربت أو هاجرت، وربما غرقت في البحر، إلا واحدة فقط، جاءت قصصها من سجن حلب، لتؤكد أن جنية محاصرة هناك معهم لم تستطع الهرب، جنية كانت تمنع العساكر الذين لم يخافوا الموت، من دخول قبو السجن ليلاً.

قصص المحارس الليلية ليست حكراً للسوريين فقط، أنّى تكون الحراسة الليلية، تكون الحكايات، فهي بداية حكاية مسرحية (هاملت) لشكسبير، في المشهد الأول: جنود حراسة ليلية، جنودٌ بسطاء، يحدثون هوراشيو “المتعلم” عما رأوه لليلتين متعاقبتين، لقد رأوا طيف ملك الدنمارك المتوفى وهو في خيلاء زيه العسكري سابحاً في الهواء، وهوراشيو كان أكثر حظاً منا، كان له أن يسخر من هذه القصة، إلا أن تواضعه سمح للجنود بالطلب منه ” اجلس قليلاً، ولنهاجم مرة أخرى أذنك التي حصنت نفسها إزاء روايتنا، بما رأيناه ليلتين متعاقبتين” تواضعه الذي كان سبب مجيئه ليثبت صحة ما أحرزه من علوم العقل، في بلاد خارج الدنمارك، وحصن بها سمعه عن وهم هذه الرؤية. جندي الحراسة مارسيليوس يخاطب صديقه برناردو عن رأي هوراشيو الساخر بما رأوه “يقول هوراشيو، إنه وهمٌ منا ليس إلا، ولن يدع التصديق يسيطر عليه بصدد هذه الرؤية المخيفة، التي رأيناها مرتين، ولذا رجوته المجيء معنا للخفارة طيلة دقائق هذه الليلة.

 فإذا جاء هذا الطيف ثانية دعم ما رأته عيوننا وتكلم معه “فيرد هوراشيو مبتسماً: “لا، لا إنه لن يظهر” إنه هوراشيو الساخر.

في المشهد الأول من المسرحية مفارقتان، المفارقة الأولى وهي الأجمل، تكون عند رؤية هوراشيو الساخر لطيف ملك الدنمارك بأم عينه، يرتعد خوفاً ودهشة، تراه يختبئ خلف جنود الحراسة البسطاء ويحتمي بهم بشكل حقير، يختبئ خلف أولئك الذين سخر من رؤيتهم قبل قليل وهو يراها كما وصفوها، فيقول عن الطيف “إنه يرعدني خوفاً ودهشة” فيرد عليه مارسيليوس: “أنت فقيه يا هوراشيو خاطبه (كلمّه) سائله يا هوراشيو” والمفارقة الثانية، هي رفْضُ الطيف للتكلم مع هوراشيو، بل تعداه في حركة مسرحية جميلة وتجاوزه! لقد رفض التكلم مع هوراشيو وتجاوزه. إنه هوراشيو المدرك للطيف.

هوراشيو (Horatio) : اسمٌ ذو جذور لاتينية، إذا أردت البحث عن معناه في اللغة الإنجليزية فتجده يعني: Timekeeper أي: الميقاتي. وهوراشيو اسمٌ بثلاثة مقاطع صوتية، (هو-را-شيو) إذا أخذنا المقطع الصوتي

الثاني والثالث من اسمه (را- شيو – Ratio) فمعنى الكلمة يكون (المقياس – النسبة) فيصبح معنى الاسم: هو المقياس – هو النسبة.

و(Ratio-راشيو) هي المقطع الصوتي الأول والثاني من كلمة (Ra-tio-nal) والتي تحمل معنى: المنطقي أو العقلي فيصبح معنى الاسم: هو المنطق – هو العقلي، ضدُّ الخرافي.

هل يعقل لهذا الطيف أن يتجاوز هوراشيو بما يعنيه اسماً وشخصاً؟! واحسرتاه، إنه لم يتجاوزه فقط بل ورفض التكلم معه أيضاً. هل سخر منه ومن علمه؟ نلاحظ هنا ثلاث لحظات لهوراشيو: الأولى: هوراشيو الساخر من الطيف، والثانية: هوراشيو المدرك للطيف بخوفه ودهشته، الثالثة هوراشيو العاقل للطيف لاحقاً عندما تنبأ “بانفجار قريب في دولتنا” وأن هذا الطيف “نذير شؤم” استناداً على تحليله لمعطيات سياسية وعسكرية رابطاً إياها بظهور هذا الطيف. كيف لا وهو المتعلم الفقيه.

للأسف الشديد، أغلب معدّي نص مسرحية هاملت، بارعون من الناحية الدرامية، جهلة بنواحي أخرى، تراهم يحذفون المشهد الأول من المسرحية، وهو فعل صحيح على المستوى الدرامي، إلا أنه مضرٌ بالنسبة للمعنى العام للمسرحية، وبدءاً بهاملت بيتر برووك (Peter brook – العرض موجود كاملاً على  موقع اليوتيوب)، وصولاً لهاملت السوري (هاملت السوري – العرض موجود كاملاً على موقع اليوتيوب) وفي كلا العرضين يُبتر المشهد الأول من المسرحية، فتظلم شخصية هوراشيو وتنقص عظمة المسرحية.

بعيداً عن هوراشيو هاملت، فسخريته لحظةٌ لا بد منها، قريباً من هوراشيو هذا العصر، مسخ هوراشيو الذي لا ترحب خشبات المسارح إلا به، أي علمانيي الليبرالية وملحقاتها، ذلك الحقير المكتفي بهوراشيو اللحظة الأولى، الساخر دائماً وأبداً.

عندما حدثناه عن الطيف سخر مما رأيناه، فلا تواضع عنده لينزل مع البسطاء ويدرك ما يروه. ولا علماً أصيلاً لديه لإدراك ومخاطبة طيف، ولا قدرة لمواجهته، وعندما نابه شؤم هذا الطيف، اختبئ وبكل حقارة في العالي من الأبراج، وما زال في تلك الحقارة التي ما بارحها ولن يفعل، يختبئ خلف منابر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، أو منابر من نوع آخر، يتبجح بفوقية علمه المزعوم ويسخر، لا تصغي له، سيتجاوزه هذا الطيف ويسخر منه لا محال.

خاص مجلة قلم رصاص الثقافية 

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *