آخر المقالات
الرئيسية » يوميات رصاص » وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (2)

وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (2)

2- عمّان..

المدينة القائمة على جبال سبعة.. اللويبدة، الجوفة، التاج، النصر، الحسين، النظيف وجبل عمان.
أحببت عمارة جسورها وأنفاقها التي تخترق الجبال أحياناً، تضاريس لعوبة لمن اعتاد انبساط تضاريس مدينته فذُهِل باللا مألوف.
لم أدرك أنني وصلت إلى عمان حتى سألت، لم أدرك الوحدة العضوية لأبنيتها المتوزعة على التلال فظننتها تجمعات سكنية منفصلة، اربكني تشابه ارتفاع ابنيتها ولونها الترابي، ووسط هذا التشابه كان يعلو عدد من الأبراج المُلبّسة بالمرايا، لا تحمل أي طابع معماري استثنائي.
من المفارقات التي أخبرني بها السائق وضحك ساخراً أن سفارة سوريا التي مررنا بقربها تقع مواجهة لسفارة المملكة العربية السعودية. لم أجد في الأمر ما يستدعي الاستغراب، فبعد ثماني سنوات عدنا لنغازل دول الخليج التي كانت سبباً في “حربنا الكونية” متناسين العداوة، جاهزين لنبيع ما لم يُباع بعد.
بلهفة طفل زرت المدرج الروماني والأوديون وأنا أحمل في ذاكرتي صورة ضبابية لمدرج بصرى حين كنت طفلة صغيرة. يصحبنا أبي لنزور جميع المواقع الأثرية المترامية ضمن الحدود الممكنة لجغرافية سوريا، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً. حتى الجسر المعلق في دير الزور سرت عليه، ذلك الجسر الذي أعتاد أهل الدير أن يأخذوا العرائس قبل زفهن لعرسانهن ليسرن عليه بات الآن مجرد دعائم، أما آثار خطواتهن على جسده فغرقت في الفرات.
يقولون أن في دمشق القديمة أيضاً مدرجاً رومانياً كبيراً بناه جيرود الكبير سنة مئة قبل الميلاد، مدفون تحت بيت العقاد في سوق الصوف داخل السور، قريباً من الشارع المستقيم أو ما يسمى حالياً بمدحت باشا.
وكما لكل مدينة أسرارها، فهذا المدرج الروماني هو واحد من أسرار دمشق الكثيرة، تخبؤه في قلبها، ولا تفصح عنه.
***
كلما زرت مدينة جديدة استمع لحكايات أهلها لأُحِسّها أكثر..
وأنا أدخن سيجارتي في المحل، أسمع حكاية لأكتبها يحكيها بائع أردني عن أقاربه في سوريا بعد أن سمع لهجتي الدمشقية.
يخبرني عن أمه، إنها من درعا، أحد أبناء أخواله مع “الجيش النظامي” بينما الآخر مع “الجيش الحر”، بُترت ساقاه عندما سقطت بقربه قذيفة، هو الآن عاجز على كرسي بعجلات.
أشرب قهوتي وأفكر بالأكواب الكبيرة التي يقدمون فيها القهوة في عمان، رائحتها طيّبة كرائحة الصحراء بعد المطر وطعمها مُرّ كمُرِّ قهوة البدو.
بائع آخر زوجته من حلب، لم تزر أهلها منذ سنوات، هم لا يستطيعون زيارتها أيضاً. يسألني كيف عبرت الحدود وعن الحال بعد فتح معبر نصيب، فأخبره بما أعرف. تلتمع عيناه بالأمل، إذن.. سيلتقون يوماً بعد طول انتظار، فإغلاق الحدود مع سوريا اشعرهم بحصار قد لا يشبه حصارنا، ولكنه أيضاً حصار.
الثالث فلسطيني هُجّر أقاربه من مخيم اليرموك ليستقروا في تركيا، ثم ركبوا “البلم” في البحر إلى اليونان ومنها سيراً إلى أعماق أوروبا. صلات دم قطعتها حدود جغرافية وسياسات.
انظر إلى تلك الفساتين المزخرفة، المطرزة بالنقش الفلسطيني المعلقة في أسواق وسط البلد، 70 كيلومتراً تفصل عمّان عن القدس لكنك لا تستطيع الوصول إليها، ترى أضواءها متلألئة من بعيد في ليلة صافية، قريبة منك ككف يدك وبعيدة عنك بخطوط حياتها المتشعبة، وخطوط مصيرها المتباعدة.
كلمة: يا ستّي.. ذات وقع محبب على أذنيّ حين أسمعها من سائق التكسي أو من البائع، وحتى من الصبي الصغير الذي يبيع العلكة، بقدمين حافيتين متسختين، وعلبة كرتونية صغيرة يمدها نحوي لأختار بين نكهتين تحملان طعم الفقر نفسه، يتقاسمه أطفال المدن المشردين على امتداد العالم العربي.
أسير وأضيع في الطرقات دون خوف، أحاول استكشاف الزواريب الصغيرة، التفاصيل المخفية عن أعين السياح، أتذوق نكهات المدينة بعينيّ وأنا انظر في وجوه المارة، وأراقب نظرات “الإخوان” في جلابياتهم القصيرة وقلنسواتهم والطبعات الغامقة على جباههم، يغضّون عني البصر أحياناً وأحياناً أخرى ينظرون في عينيّ مباشرة فينفتح عالمهم الداخلي على عالمي لثوانٍ، ثم يُغلقُ مجدداً.
***
وكأن الأسواق الشعبية تتشابه في كل مكان، سوق الخضار قرب حمام روماني قديم وسوق اللحوم، سوق خاص بالأقمشة واللوازم المدرسية، وباعة يفردون بضاعتهم على الأرصفة وينادون عليها بالميكروفون:
– القطعة بدينار.. القطعة بدينار..
فأتذكر أسواق باب الخضرا في تونس، وتختلط المدن.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *