آخر المقالات
الرئيسية » ألوان خشبية » “سمّ في الهواء” لـ بطرس المعري

“سمّ في الهواء” لـ بطرس المعري

وقفت بذهول أمام “الغيرنيكا السورية”، رأيتها من قبل افتراضياً ولكنها المواجهة الواقعية الأولى لي معها، لوحة كبيرة يغلب عليها السواد مقسمة لثلاث أجزاء وكأنها مراحل ثلاث، في الأول تظهر دمشق بأموّيها وادعة تهب عليها نسمة ريح خفيفة، ربما هي ذات النسمة التي ستتحول لاحقاً إلى ريح التغيير، تتماوج عليها طائرة ورقية صنعتها يدي طفل صغير، تنقل الريح الطائرة إلى القسم الثاني وهو الأكبر، فأحسها طائرة حربية رغم هشاشة ورقها تتساقط عند قدمي جنرال الحرب المزين صدره بالنياسين والذي يرفع إصبعه وكأنه يبشر بحرب طويلة مقدسة وهو يلعب بمصائر البشر وكأنهم أوراق شدة، تنقر الغربان أعينهم وتكدسها في القسم الأيسر من اللوحة، أما في الزاوية اليمنى العلوية يظهر حامل مشعل مختبئاً خلف ستار شفاف، ولكن مشعله مقلوب إلى أسفل، صورة أحالتني إلى تمثال “الثوري العربي” الذي رفع عنه الستار عام 1967 في ساحة المحافظة في دمشق ليبشّر بدخول الثورة إلى مختلف القطاعات الشعبية، أما القسم الثالث فهو بداية الرحلة أو التغريبة، موكب من الزوارق الورقية تسبح ضمن سواد اللوحة لتخرج من إطارها وتتحول إلى خطوط سوداء على الجدار الأبيض لغاليري كاف في بيروت، مع عبارة “سنعود يوماً”.

هل حقاً سنعود؟ هل سيعودون؟ وإن عادوا، فإلى أين؟ أإلى كل هذا الخراب؟

ربما ليس من حقي طرح هذا التساؤل، فأنا لم أغادرها وبقرار ولكنني أشعر بالحنين إليها رغم أنني فيها، أحن لذاكرتي معها كما يحن لها بطرس من هامبورغ الباردة، يحن لذاكرته التي تركها هناك، وأهله، ودرج ساحة باب توما الملاصق للمخفر.

رغم أن “الغيرنيكا السورية” ليست من تحمل عنوان المعرض إلا أنها تسرق النظر من نظيرتها اللبنانية “سمّ في الهواء” المعلقة على الجدار المقابل مكفّنة بالسواد، حيث يطل جبور الدويهي من لوحته الصغيرة المطبوعة بطريقة المونوتيب على اللوحة الأوسع التي تلخص روايته الأخيرة كما رآها بطرس، وهي كقريبتها مكونة من ثلاث أقسام. الأول هادئ مسالم، تطير فيه حمامة تحمل في منقارها غصن زيتون، الثاني وهو الأكبر يتفتّح فيه العنف بجميع رموزه وكأنه زهرة النار الصغيرة تلك المعلقة على رأس عود الكبريت ربما هي بداية الفتنة وربما تحاول أن تنير الظلمة عبثاً فنشاهد فقط ما يسمح به نورها الشحيح، فتجبرنا أن نصبح شهوداً على المجزرة لنرى الغربان تنقر عيون الرؤوس المقطوعة بسكين، أما في القسم الثالث فتنسحب الحرب كفرس لعوب تنتعل فردة حذاء أحمر في إحدى قدميها بعد أن داست بحوافرها على الجميع.

ورغم العنوان العريض للمعرض إلا أنه يتكون من مجموعة لوحات مصنفة حسب أرواحها المختلفة، فهناك مجموعة الثور والكرسي التي تضم خمس لوحات، ثور بوجه إنسان يمثل الحرب، فيبدو في إحدى اللوحات طاغيا على ثلاث مراكب ورقية تحاول الفرار، وفي أخرى يحمل كرسي “الحُكم” مقلوباً على قرنيه، وفي ثالثة ينظر إلى الكرسي بطرف عينه بينما يضع على رأسه القارب الورقي الذي فر من لوحة سابقة، وفي رابعة ينطنط على قرنيه الكرة المطاطية الملونة التي تشبه حياتنا ليفقأها في أية لحظة.

هناك أيضاً لوحة “العشاء الأخير”، حيث يؤذن الديك بحلول الصباح، وهو العنصر الوحيد الملون في اللوحة بلون الدم الأحمر، وكأنه نذر بما حدث في الصباح التالي.

على الجدار المقابل مجموعة مكونة من 21 لوحة صغيرة تتفاوت مواضيعها وتتداخل أحياناً، فهناك عبلة التي تحمل ثمرة اناناس، وعنترة برمحه المرفوع حدّ السماء بينما حصانه يلاعب كرة ملونة بحافره وكأنه يدمج بين ذلك العصر والآن من خلال عنصر جديد هو كرة الشاطئ بحزوزها الملونة كالبطيخ، وكلا اللوحتين مرسومتان بخطوط تشابه خطوط الرسامين الشعبيين الذين يستمد منهم بطرس تيماته ليحوّلها إلى أسلوبه الخاص.

لوحة لصوامع القمح تحترق بعد التفجير في ميناء بيروت خلفها البحر الصافي والزوارق الشراعية، وكأن هذه الزوارق التي تتكرر في لوحات كثيرة تربط جغرافيا المنطقة بحكاية الهجرة، وتضع علامة مفصلية على صفحة التاريخ، تاريخنا نحن الذي لا يهم أحداً غيرنا، صغير بحجم هذه اللوحة.

كولاج الدرويش الملاك طائراً في سماء الليل يحمل مظلة لا كي يحمي نفسه من المطر بل الأسماك الذهبية التي لا يريدها أن تبتلّ، “ذاكرة زيتونة” على شاطئ بحر يافا ربما، وربما في مكان آخر من العالم تظللها غيمة، وزورق ذا شراع يتجه لأفق البحر وكأننا نحن من يركب الزورق ونحمل الزيتونة التي بقيت تنتظرنا على الشاطئ في ذاكرتنا، لا هي. شجرات زيتون في ضوء القمر وسط بحيرة تسبح على سطحها زوارق شراعية، “كشتبان من الزمن الجميل”، درويش أو ملاك آخر منشور على حبل غسيل مع لباس داخلي زهري وكأنه هو نفسه من عاد من رحلة مسائية في لوحة سابقة بعد أن بلله المطر وهو يحاول أن يحمي الأسماك بمظلته بينما تنتظره ثمرة نارنج في الصحن، لوحة صغيرة للثور بوجه رجل اسمها الحرب على خلفية سوداء مع مصباح كاز مطفئ، موكب من الزوارق الشراعية على صفحة ماء رقراق.

مجموعة أخرى مكونة من أربع لوحات للدراويش بقلنسواتهم وهالات القداسة المحيطة برؤوسهم وعيونهم المفتوحة على اتساعها لتشهد تغيرات الكون، هم سكان البلد المنكوب، لوحات وكأنها من الحياة اليومية وسط الظلمة التي تملأ بيوت السوريين تتخفّى خلف الطبيعة الصامتة بعناصرها المكونة للوحة كالفاكهة المرصوفة في أوان، دلّة القهوة وكتاب ولمبة مطفأة.

ست لوحات مونوتيب -وهي تقنية طباعة نتيجتها نسخة واحدة فقط لا تتكرر- لأجزاء من الجسد العاري تكسر سواد اللون المحيط باللوحات ككل، وتنقلنا إلى خطوط مختزلة واضحة.

أربع لوحات من مجموعة “البيرسينغ”، نمط جديد أيروتيكي عمل عليه بطرس هذا العام حتى أنه أرفق إحدى اللوحات مع قصيدة زجلية على صفحته في الفيسبووك:

” أوف أوف أووووف يابا

يابا حبك يا حلو دخل قلبي متل ما بعزقة دخل برغي

ومن شدة حبي صرت صابون، إن مررتني ع إيديك برغي

يابا حبينا نعمل للحبيب بيرسينغ، ما لقينا نفوّت غير برغي

وصار كل ما مدينا ايدنا يصير الدم للركاب يا ياب

حبوا علينا بس حبوا متلنا…”

بطرس يكتب أيضاً، ليس الزجل فقط، فلديه كتابين جميلين وشفافين جداً صادرين عن دار أطلس في دمشق هما “رؤيا الدمشقي” و”كيوبيد الدمشقي”.

تتكرر أشجار الزيتون أو أوراقها أو حباتها كعناصر في اللوحات وتتكرر الثيران والزوارق الورقية والطابات الملونة لتنتقل كعناصر مفردة بين لوحات المعرض جميعها.

حين سألت بطرس عن “الغيرنيكا السورية” إن كانت قد عُرضت سابقاً أخبرني أنها كانت في معرض عمان، ولكنه أحضرها من هناك إلى بيروت لتصبح أكثر قرباً من دمشق تغادر إطارها الزوارق الورقية لتنتقل إلى لوحات أخرى وإلى أرواحنا ليتفتت ورقها ويذوب.

ورغم قرب دمشق من بيروت، وتقابل اللوحتين، “الغيرنيكا”و “سمّ في الهواء” لم تسطع عائلة بطرس التي لم تره لسنوات زيارته في معرضه فلم يسمح لهم بعبور الحدود، سم قاتل في هواء المنطقة بأسرها، فتنة نائمة لا تنتظر من يوقظها، تنام بعين مفتوحة وتغلق الثانية، ودمشق تبقى بعيدة.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *