الرئيسية » يوميات رصاص » وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (3)

وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (3)

3 ـ الإسكندرية..

ويحدث أحياناً.. أن تقع في حُبّ مدينة.

لم يكن حبّاً من النظرة الأولى.. لا.. النظرة الأولى كانت مجرد إعجاب فقط، مصحوب بذهول.

لم أتعجّل بالحب، فقد حوّلتني التجارب إلى امرأة عقلانية، تحاكم ما تراه بالمنطق، تداري قلبها بأصابعها المرتعشة الخائفة لتحميه من صدمة هجران أو خيانة محتملة.

حدث ذلك في اليوم الثالث بالضبط، فجأة.. شعرت بأنني وقعت في الحب دون تمهيد.

كالغرقِ في زبد البحر بعد نوم عميق، مثبّت إلى فراشك الطري لا تستطيع النهوض، يغرق جسدك عميقاً جداً، يسري فيه خدر جميل وأنت تطفو على سطح موجة. هذا ما أحسسته.. تجاه المدينة.

دمشق أكرهها وأحبها..

أحبها.. وكم أكرهها في ذات الوقت..

أما الإسكندرية فهي تلك التي وقعت في غرامها.. تذوقت قهوتها فعرفتها أكثر.. فكيف لك معرفة حبيبك إن لم تتذوقه؟

كم يختلف مذاق القهوة بين المدن، وتختلف طريقة تقديمها..

هي ذاتها.. حبوب بنّ محمصة بدرجات.. ما يميزها هي نكهة الروح المضافة من المدينة التي صنعتها بيديها.. لك.

أجلس في قهوة “الهندي” وسط المنشية، وأراقب القطط النحيلة كتماثيلها الفرعونية مسترخية في بقعة صغيرة من الشمس على الطاولة المجاورة. فوقي تقع “وكالة بهنا” التي تأسست في ثلاثينيات القرن الماضي لتعمل في التوزيع السينمائي حتى الستينيات، شريكة في إنتاج أول فلم مصري ناطق وأول وأضخم موزع للسينما المصرية في الشرق الأوسط والعالم.

فكيف لي ألا أغرم بقهوة وتفاصيل هذه “الجميلة”؟

كل ما في المدينة أدهشني بفرح طفلة لا تملّ من النظر حولها واستنشاق هواء له طعم الملح، حين شاهدت طابعها المعماري شعرت كأنني دخلت آلة زمن تعطّلت في فترة ذهبية من التاريخ لم يُصنع أي تاريخ مهم آخر بعده، سوى تشويهها بلافتات دينية وأشرطة كهرباء تقيد جسدها الحرّ التوّاق لريح البحر والعُري والجمال والنور.

مدينة أبنيتها وشوارعها متاحف بحد ذاتها، حتى عربات الترمواي الخضراء آتية من ذلك الزمن الغابر. ذكرتني عمارتها ببيروت حين شعرت بالوحشة والفراغ وأنا انظر إلى الأبنية المتهالكة الخالية من إسكندرانييها اليونان والطليان وخليطها الديني من اليهود، بعد التأميم هُجّروا كما هُجّر البيروتيون بفعل الحرب، كسكان مدن عربية كثيرة أخرى تركتها أرواحها بينما ظلت جدران بيوتها تحن إليهم، وتشتاق الدفء وهمسات الحب المسموعة بصمت بين ساكنيها.

وفكرت:

ـ يبدو أننا جميعاً لا نحب عبد الناصر وكيف طبق أفكاره عن الوحدة العربية والإشتراكية..

******

الإسكندرية نسبة لإسكندر الأكبر، عاصمة لمصر في العهد الروماني لما يقارب الألف عام، مدينة حضنت أحد عجائب الدنيا السبع وهي منارة الإسكندرية التي دمرها الزلزال فارتفعت فوق أساساتها قلعة قايتباي البيضاء..

للأموي أيضاً مئذنة تسمى قايتباي، بيضاء أيضاً، وهي تلك المواجهة للمِسكيّة ولباب البريد.

مدينة للنور بمكتبتها التي احترقت بنور نيرانها، فقامت على أنقاضها مكتبة حديثة تضم أكثر من ثمانية مليون كتاب.

ولها سور أيضاً، تماماً كسور دمشق يسوّر خصرها لخمسة عشر كيلومتراً تقريباً لم يبق منه سوى بضع أبراج مراقبة متوزعة على جسدها كشامات متباعدة، وفيها أربعة أبواب وربما ستة لم يبق منها شيء أيضاً..

كان لها باب شرقي أيضاً كما لدمشق، وهو أول باب تطل منه الشمس على المدينة لتوقظها من غفوتها، وباب للقمر في الغرب لتنام مطمئنة يهدهدها همس موج البحر، وباب للبحر كما في تونس..

وكما تمر فروع بردى السبع متعرجة داخل اسوار دمشق، عبرت الإسكندرية ذات يوم تفرعات صغيرة عن نهر النيل، ومدّتها بالمياه العذبة، لكنها جفت، كما يجّف كل شيء حي.

وفي الإسكندرية أيضاً مدرج أو مسرح روماني صغير، يشبه بحجمه مدرج “جبلة” على الساحل السوري، ومدرج “شهباء” في الجنوب ومسرح “تدمر” الذي أعدم تنظيم داعش على “سْكينَتِهِ” الجميلة جنوداً سوريين، فتناقل الإعلام على شاشاته الصورة الهوليوودية المتقنة لتصفيتهم دون تشفير.

نحن الآن كائنات لا تصنع التاريخ.. نحن مختصون بتدميره..

*******

الحماية مشددة على الكنائس خوفا من عمليات إرهابية والتصوير ممنوع، بالكاد تستطيع التقاط صورة خاصة مع الاستفتاء الجديد على تغيير الدستور.

وفي قلعة قايتباي يخبرني عماد المسؤول عن الأمن في القلعة بأن خلف البحر الذي أراه أمامي تستلقي يونان وإيطاليا.. وإن سرت بمحاذاة الشاطئ إلى اليمين سأصل إلى إسرائيل.

انظر إليه نظرة مواربة فيرتبك ويصحح قائلاً: فلسطين.. ثم ينصرف عني ملاحقاً زوار القلعة من الشباب والصبايا المولعين بالاختباء في زوايا غرفها البعيدة عن العين لاستراق قبلات خاطفة، يطاردهم صعوداً ونزولاً على الأدراج طوال اليوم دون أن يتعب.

أضحك وأطلب منه تركهم ليحبوا كيفما يشاؤون، فيتحجج بالرحلات المدرسية الزائرة، وبأن القبلات تخدش حياء الأطفال وتُنضِجُهم قبل الأوان.

أفكر وأنا انظر للأزرق الممدود أمامي، إن سرت بمحاذاة الشاطئ يميناً فكم من الأيام سأحتاج لأصل يافا التي طالما حلمت بزيارتها؟

على جيب سترتي الأيمن أثر طلاء زورق أزرق علق به بينما كنت أحاول التسلل إلى البحر بين زورقين حديثيّ الطلاء.

ادخن سيجارتي جالسة على الرمل اراقب الزوارق الراسية في الخليج تتهادى في مكانها ببطء، ترفعها موجة صغيرة لتعيدها إلى مكانها وأفكر في هذا “اليمين” الذي تمنعني الحدود بالمسير إليه، القدس تبعد عن دمشق 219 كيلومتراً فقط و70 عن عمان فكم تبعد عني حيث أجلس الآن؟

أتحسس الطلاء الأزرق المتيبس على جيب سترتي الأيمن، وأفكر بكل الزوارق العالقة في البحر، وبكل الزوارق المطاطية التي غرقت حاملة إيّانا نحن السوريون إلى أمكنة أكثر أماناً.

*******

الاسكندرانيون.. بخلاء في التعبير عن مشاعرهم عكسنا نحن السوريون، يحسبون حساب الأعين المراقبة ويخشون التماس الجسدي، يخافون العناق المحمل بطاقة حب وتقدير بلا حدود، ويستقبلون الدفء بخجل وكأنهم يرتكبون معصية، ولا عجب فجدران شوارعهم مزينة بلافتات تنهي عن المعصية وتدعو إلى الصلاة والاستغفار، وأعين القيّمين على أخلاق المدينة تراقب الخارجين عن خط سير القطيع.

تبتدئ أسواقهم بلافتة معلقة على مدخله كتب عليها “دعاء دخول السوق” لتسيير الأمور فتضيق بهم مساحات الحرية، وتُعدّ على الأصابع كما في دمشق في زمن الحصار، الحصار على كل من أراد أن يحيا حياة طبيعية دون تدخلات الوعظ الديني والتكفير والتقييم.

لكننا رغم هذا الحصار.. كلنا نحفظ أغاني الشيخ أمام وفيروز بلهجاتها المصرية والسورية واللبنانية، نتبادل غناءها بسلاسة وكأننا غنيناها طوال العمر معاً، نتكلم نفس اللهجة ونذكّر بعضنا بأبياتها المنسيّة، فتتقاطع خيوط مصائرنا ومساحاتنا الصغيرة رغم كل الحدود.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *