الرئيسية » رصاص ناعم » خوابي العشق الأربعون

خوابي العشق الأربعون

لتلك الخابية سر الأسرار.. من فتحها فقد خلده العسل.. ومن وقف دون فتحها فهو هالك.. هالك..
لتلك الخابية رموزها.. وسرها وسحرها.. عنقها.. خصرها.. رائحة الذكور مكتوبة على جدرانها بماء التشهي.. طينها الحار محروق بألف لهفة.
سيدي ومولاي لك من الأبيض عشرة.. ومثلهم من الأحمر.. وضعفهم من الأخضر.. ثم ستزول ألوانك ولا يبقى إلا سرها..
سيدي ومولاي لقد بلغت أرذل الحب وما زال في النفس شيء من ثوبها الذي وضعته العرّافة في جرن، ودقته مع لحمها حتى أصبح من المستحيل فصل خيوط الثوب عن خيوط اللحم ثم أحرقته وذرت رماده فوق مفازات بلا نهاية.. في ذلك الربيع أنبتت الصحراء أشجاراً لها رائحة الغواية تكاثرت وتكاثرت حتى غطت لون العطش وقذفت الأشواك ماء حاراً.
ذلك الثوب الذي مزقته بأسنانك وحفرت على لحمه أول ملحمة تكتبها الأسنان على رُقٌم الجسد.. فانهمر الحليب ووضع النقاط على الحروف..

لك عشرة أيام اعتزلت في مفازتك ولم تفتح فمك إلا لقطرة ماء تبلل عطشك فقد كان خوفك إن فتحت فمك أن تهرب رائحتها التي تغذي فحولتك..
وعشرة أيام حمراء كمعركة دامية.. بدأت فيها ترحالك وممارسة الغواية في كل أرض تدوسها قدماك..
وضِعفها خضراء الدمن فقد بنيت فوق المدى هرماً من جسدها ورفعت كعبيها فوق كتفيك ورأيت الكون بألف لون..
حينما سار المؤمنون مشياً على الأقدام كي يلتقوا بالحبيب المشتهى.. كنت ما تزال تشعل النار كي تبعد هزيع الليالي.. فالنار رفيقة مخاتلة مثل المرأة إن لم تزكيها بروحك وتحميها بجسدك فهي مفارقتك فراقاً لا رجعة له..
المؤمنون يسيرون منذ أربعين شوقاً بأقدام حافية وروح تتهجد للوصول .. يسير أمامهم أربعون جملاً يحملون إرثاً من عطشك وعطش أسلافك.. تكتب آثار حوافرهم على الرمل حكايات من سبقوك .. الخط يستقيم مدة أربعين حولاً.. ثم يتعرج ما بقي فيه نبض..

قبل الرحلة كان صوتك يهتف: مدد.. مدد يا معشوقي..مدد.. مدد يا مولاي وسيدي.. رفعت يديك ونظرك، وكل حواسك كي تبارك الرب وإذ بصوت يقتل فيك كل الرغبات إلا رغبة الجسد.. مرت وبان كعبها فاسملْ عينيك بأقرب أداة حادة يا سيدي ومولاي كيلا ترفع هذا الكعب وتشرق شمس….
ألقمتك كفها وهي تطلب صدقة لجسد شققته الصحارى ولم يتشقق..

مولاي وسيدي كنت لا تزال غراً تهش ذباب الملل والضجر والوقت عنك وعن عشيرتك بتعصب يفور في دم أسلافك.. مرت من أمامك.. مدت كفها تطلب الصدقة.. لو قيض هذا الكف لك لحاربت به الأنس والجان..
كفها ممدود نحوك.. جسدها منتصب كراية لا تنحني.. أمسكت كفها فبرزت خطوط مستقيمة وملتوية ومتعرجة كأنها دعوات بكل الاتجاهات.. وقفت أمامها والكف تعتصره أصابعك.. قرأت اللوعة والألم في عينيها.. وقف الزمان.. تجمدت الشمس فوق لهيبك.. دار المكان.. واللعبة في يدك يداعبها عنف أصابعك.
صاح المؤذن.. هب المؤمنون وغرقوا في نسيجهم الأخضر، يتمسحون، ينوحون ويندبون.. وغرقت في نسيج مخاتل تلهث وتتشنج وتجثو ثم تركع..
المؤمنون في صلاتهم وأنت يا سيدي ومولاي تتعبد هذا الكف الطري وتقلبه ذات اليمين وذات الشمال.. وبوصلتك لا زالت نائمة في وصيدك ترعى سكينتك..
ثم بدأت صلاتك وفردت سجادتك فوق شظى الرمال.. وارتفع صوتك مزمجراً :
من وضع سر النخيل في النواة ؟؟

سبع دورات والتمر يسّاقط فوقكما..كم شروق سيشرق وأنت تدور حول مزدلفك وتبارك المعبود في خلقه؟
طويت المفازة عابراً كل الجهات.. وصلت إلى سجادتك الممددة.. عصرت الرمان…… وهرست العنب.. وشربت.. شربت.. شرت حتى تمدد خدرها في جسدك.. ثم ولجت مجاهيل الآبار……
ركعت مشرّقا.. وسجدت مغرّباً….. ولا زال النادب يندب شهيد الصحراء.. وأنت لا زلت ترمي الجمرات في قاع شيطانك..
حتى خرج المارد وصاح: رحماك يا سيدي ومولاي لقد فاض البئر…. فاض البئر…… فاض البئر. فادخل في لجة الظلمات كي ينبثق النور.
كم كنت جائعاً؟ كم شقق الظمأ روحك؟؟ أمسكت بوصلتك وحددت جهة الشروق فشرقت ثم حددت جهة الغروب فغربت.. اقتربت ثم ابتعدت.. ثم سجدت ثم جثوت ثم ركعت وأعمدة النور لا زالت ترفرف فوق كتفيك كحمل بريء ينتظر يوم النحر الكبير..

لامست بوصلتك جهة الجهات فأشرقت أنوارها وبان كنزها.. فركت بوصلتك فشهق ماردك: شبيك لبيك.. كنوزي بين يديك.. ادخلني آمناً واخرج مني نادماً.. ادخل واخرج فليس أمامك غير هذا.. وإلا فالهجرة والضياع والشتات أمامك..
لا زلت تخرج وتدخل يا سيدي ومولاي حتى تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.. عندها بدأ جلد روحك يتجدد ويتقشر..
للمؤمنين ساحاتهم وقببهم وآبار عطشهم.. وأنت هنا ساحاتك فوق هذا الجسد البض ارمح مختالاً.. ارفع سيفك واغمده كي تقص حكاياتك على حبات الرمال.. وهذه قببك التي تصهل بين وديانها وتلهث كي تصلها.. وتتبارك بمائها الذي يحي رميم الروح…
فاعلم يا سيدي ومولاي بأنك الأول من لملم ماء زمزمها والأول في اعتلاء أبراجها والأول من طعنها سيفك حتى اللحم.. والأول من حفر آبارها.. فلك المجد يا سيدي وفوق قببها المسرة.. ولك مفاتيح مدنها إلى أبد الآبدين.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فاديا عيسى قراجه

فاديا عيسى قراجه
كاتبة سورية، أصدرت خمس مجموعات قصصية وروايتين قيد الطباعة، ونالت العديد من الجوائز، تكتب وتنشر في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية.

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *