آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ضوئي » سوريا الحب

سوريا الحب

“أمر باسمك اذ أخلو إلى نفسي كما يمر دمشقي بأندلس… أمر باسمك لا جيش يحاصرني ولا بلد كأني آخر الحرس”.. محمود درويش.

ككل الأشياء التي قد نحبها دون سبب، أحب أنا سوريا. لم أزرها يوماً، لا أهل لي فيها ولا أملك بها صديقاً أو حبيباً، ولكن روحي معلقة بها ولها في القلب مكان لا يسكنه سواها، ولا يليق إلا بها. ربما لأني ومنذ طفولتي المبكرة، اعتدت مشاهدة مسلسلاتها التي أعرفها ربما من ألفها إلى يائها، وكبرت مع أبطالها وقد اعتادت أذني على لهجتها، حتى أني أتقنتها وأستطيع التحدث بها وكأني بنت البلد أبا عن جد.

أحب سوريا، أحب شوارعها وحاراتها العتيقة، أحب مقاهيها الشعبية، أحب بيوتها العربية القديمة بفسحتها السماوية وكأنها فسحة أمل. تلك الفسحة التي تخبرك أن السماء قريبة جدا وأنه لا يوجد حاجز بين دعواتك المرسلة وبين القريب المجيب. أحب تلك النافورة التي تتوسط البيت والتي يسمونها البحرة وأشتهي فنجان قهوة صباحيا على حافتها. أتخيل يدي الممدودة لتداعبها برودة المياه العذبة وعيناي تجولان فيما حولي، فلا تريان سوى الخضرة والجمال. يا إلهي، كيف أصف السعادة التي تعتريني لمجرد التخيل، فكيف بالواقع إذا؟

أحب حضارتها العريقة، أحب تعدد لهجاتها، أحب جامعها الأموي وقلعتها الدمشقية، أحب فنها المعماري وصناعاتها التقليدية. أحبها بكل مكوناتها، أحبها بمثقفيها وفنانيها، أحبها بكتابها وشعرائها، أحبها ببرها وبحرها وأحلم بيوم أطل فيه عليها من جبل قاسيون، يومها سأخبرها كم أحبها وكم حلمت بزيارتها، بل كم زرتها فعلا في أحلام نومي ويقظتي.

أحب الحالة التي أعيشها كلما شاهدت مسلسلا سوريا، الأفكار العميقة، الشباب المثقف، وعشق المسرح الذي لا يضاهيه عشق، قصص الحب الجامعية التي أعيش كل تفاصيلها، الحوارات المفعمة بالوطنية وبالوعي وبالمنطق والتي تحملني معها إلى عالم آخر وإلى حقبة لم يكتب لي الوجود فيها، ولكن جذوري ممتدة إليها دون شك. أحس أني أحلق بعيدا عن زمني هذا وعن التفاهات المحيطة بنا والتي تسحبنا الى أسفل كلما شارفنا على الخروج من المستنقع الموحل.

أحب هذه الحالة وأخاف زوالها، ربما لأني أجد في هذه الشخصيات من يشبهني، أنا التي لا تحلو لي الحياة الا بين أسطر الكتب.
أعلم أن هذه الحالة هي نتاج خيالي، خيالي الذي يصنع لي عالما أرتاح فيه ولو قليلا، بعيدا عن صخب الحياة وضوضائها وزيفها. أعلم أن الموضوع قد لا يتجاوز حدود خيال المؤلف وما يريد إيصاله لنا والصورة التي يحاول ترسيخها في أذهاننا، إذ أن من الحماقة الحكم على الشعوب من خلال التمثيليات ومن خلف الشاشات. ولكن لقلبي رأيا آخر، وقلبي دائما على صواب. يخبرني هو أن ظني في محله وأن الحالة التي أعيشها حقيقية صادقة وأن حنيني في محله وأن حبي وإعجابي ليس في غير أهله.

ولكني حزينة، حزينة على تلك الأرض المقدسة عندي وما آل إليه حالها، حزينة على شعب دمروا وطنه، على أطفال لم يبدؤوا حياتهم بأمان وعلى شيوخ حرموا إنهاءها بسلام. إن ما يقع في سوريا لا يمر دون أن يطال قلبا مغرما بها. صحيح أن جسدي خال من الجروح والندوب، ولكن الجروح غير المرئية لأعظم وأشد ألما.
أنا على يقين أن سوريا الحضارة لن تستسلم لواقع أليم وأن شعبها سيبنيها من جديد وسيعيد مجدها التليد.

ولكني حتى في عز أزمتها أحبها، بدمارها أحبها، بجروحها وجروحي أحبها، بالدم الذي يسيل على جسدها وجسدي أحبها. فالموضوع أبعد من مجرد أرض أو حجارة متراصة أو اسمنت، إن اختفوا يندثر معهم الإحساس. إن الموضوع كله يتلخص في أن حب البلدان يشبه حب الأشخاص، أن تحب حبيبك وهو في أسوأ حالاته، أن تحبه بنقط ضعفه، بيأسه، بخوفه، بعذابه وبأسوأ ما فيه، قبل أن تحب قوته والأمل الذي يزرعه فيك والأمان الذي يمنحك إياه، هنا فقط يمكنك أن تقول أنا أحب.

وأنا أحب…

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن سكينة هكّو

سكينة هكّو
كاتبة من المغرب، تحضر للدكتوراه تخصص جغرافيا. هوايتها الكتابة منذ الطفولة، تنشر في جرائد مغربية محلية وتحضر حاليا لمجموعتها القصصية الأولى.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *