آخر المقالات
الرئيسية » نصـوص » قطار الحج الأرجواني

قطار الحج الأرجواني

تنتظر صديقتي في بيتها البعيد مرور قطار قريب يحملها إلى الحج.

أزورها كل يوم تقريباً. أحمل لها بعض الكعك السوري الذي تحبه، وعلبة زبادي يونانية، وأضع في أسفل كيس المشتريات صامولة، ومفك براغي، أو أي أدوات أخرى، وأجزاء أفككها من قطار قديم.

تعانقني نيرمين بفرح وهي تقوم لوضع الصامولة والمفك وأجزاء القطار في غرفة خصصتها لذلك.

الغرفة لم تمتلئ بعد بأجزاء قطار الحج.

وأنا ونيرمين سعيدان بتلك اللعبة.

نيرمين التي كانت تعمل بروفيسورة في كلية الآداب، سعيدة بما أحمله لها كل يوم، وسعيدة حين أشرح لها كل يوم دون تذمر سبب إحضاري لقطع القطار.

وأنا سعيد بما أفعله لصديقتي المصابة بالزهايمر.

تقدم لي حبة شوكلاه، ثم تجلس ساهمة في مقعدها المريح، وتغفو بسلام.

أعرف أنها تحلم حينئذ بذلك القطار. يأتي صوت تنفسها المسموع مثل صوت مكتوم لقطار بعيد قادم.

وأعرف أنها ترغب في الذهاب إلى الحج، لذات السبب الذي يجعلني أنتظر مرور طائرة قرب منزلي لتحملني إلى بلدي شرق المتوسط.

يحضر لي ابني حين يزورني قطعاً من تلك الطائرة. لم تمتلئ بعد الغرفة التي خصصتها لذلك.

كما يحضر لي ابني كتاباً جديداً كل مرة، ويقرأ لي قصيدة منه. أستمتع بتلك القصائد، وأسأل عن مؤلفها. أرى سماء وبساتين ليمون وحقول توليب تحيط بي، حين يذكرني ابني بأنني مؤلف العديد من الكتب الجميلة.

أغادر منزل صديقتي، يقودني ابني في رحلة العودة إلى منزلي.

وأطلب منه كل مرة، التوقف عند منزل المُنْجد القريب، ذلك القاموس الأصفر الذي ورثته عن والدي.

أستأذن بالدخول، ولا يخطر لي سوى البحث عن “حمّال الأسية”.

******

انتظرتُ دقائق طويلة ، أمام باب نيرمين. لم تفتح لي الباب، ولم أسمع حركة أو صوتاً من الداخل. شعرتُ بقلق شديد، ثم غادرت.

كانت شمس إبريل تثير الشهية إلى الحياة. “ليس هذا وقت موت” قلت لنفسي وأنا أتوجه إلى غابة قريبة أعرف أن صديقتي تحب التردد عليها.

وجدت صديقتي كما توقعت. كانت مشغولة بتركيب آخر قطعة من القطار الذي تحلم به.

لقد حملت جميع القطع من منزلها، ويبدو أنها نجحت في صناعة القطار.

طلبت مني بسعادة أن أجمع لها بعض الحطب وقوداً للقطار.

كان قطاراً صغيراً مناسباً لصديقتي. أطلق القطار نفثة دخان وغادر بينما كانت نيرمين تلوح لي.

تقدم مني ابني، وذكرني بما جئت لأجله. أخرجت من حقيبة مشترياتي جرة فخارية أنيقة، وقمت بنثر رماد صديقتي قرب شجرة كستناء. كما كانت وصيتها الأخيرة.

*******

تراقبُ الكون وأنت في تلك الطائرة المتجهة إلى شرق المتوسط.

إنها طائرة غريبة مصنوعة من زجاج شفاف. وأنتَ أيضاً غريب، فقد تحول جسدك إلى عيون.

ترى خلفك قطار نيرمين البطيء. وترى إلى يسارك بيت قاموس المُنْجد وهو يهرول محاولاً اللحاق بك. وترى أمامك شاطئ شرق المتوسط الأرجواني.

تتساءل عن ذلك الأرجوان الفاقع، فيخبرك عقلك القديم عن أرجوان الفينيقيين سكان ذلك الشاطئ.

لا تقتنع بذلك، فثمة حزن غريب فيما تراه من أرجوان. تحاول باستماتة استعادة عقلك الجديد الذي فقدته منذ بداية الحرب، فلا تستطيع.

تواصل عيونك الكثيرة التحديق في كل شيء من حولك. ثم ترى فجأة ظلمة مباغتة، وترى ذرات رمادك وهي مذروة في فضاء ليس اقليدياً، وليس فيه شاطئ شرقي للمتوسط أو حج أو لغة أو أحلام…

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن د. حسان الجودي

د. حسان الجودي
شاعر وكاتب سوري، حاصل على إجازة في الهندسة المدنية من جامعة دمشق, ودكتوراه في الهندسة المدنية من جامعات بولونيا. عمل مدرساً في قسم الهندسة المائية، بكلية الهندسة المدنية - جامعة البعث. حاصل على جائزة سعاد الصباح للإبداع الشعري عام 1994 عن مجموعته مرايا الغدير.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *