الرئيسية » رصاص حي » مجدداً… أين تبدأ الحكاية؟

مجدداً… أين تبدأ الحكاية؟

حين تُذكر الحرب، تُذكر الخرائب. لكن حين تُذكر ألمانيا بعد الحرب، لا تذكر الجراح فقط، بل يُذكر شيء أعقد: نهوض بلا انتقام، بناء بلا كراهية، وطن لملمه شعبه من تحت ركامه. شيء يشبه الحلم، أو خيال يصعب تصديقه في أماكن كالتي عشناها.

مدينة بلا ملامح… وأمل يُرسم من رماد.. هكذا كانت ألمانيا سنة 1945، لا شيء يشبه الدولة، حطام، موت، بؤس، وشعب متعب، تائه بين ذنب جماعي وصمت جماعي. ملايين الجثث، بيوت بلا جدران، وخريطة سياسية ممزقة. كل المعطيات تقودنا إلى بلد يصلح لأن يكون مسرحاً متكاملاً لحرب أهلية… لكنه لم يكن…فكيف ولماذا؟

هنا يأتي السؤال الصعب: كيف غلّبت ألمانيا القانون على الغريزة؟

ألم يكن الانتقام مبرراً؟ بلى.  لكنه لم يكن هو الطريق. فالعدالة، حتى إن تأخرت، تبقى أنظف من تصفية الحسابات. جاءت محاكمات نورمبرغ، لا لتشفي الغليل، بل لتؤسس شيئاً اسمه: “ذاكرة لا تنسى، لكنها لا تنتقم”.

ولمن لا يعلم محاكمات نورمبرغ هي سلسلة من المحاكمات العسكرية جرت بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا بين عامي 1945 و1949، في مدينة نورمبرغ الألمانية. وقد أُقيمت لمحاكمة قادة النظام النازي الألماني بتهم جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، وجرائم ضد السلام.

فرّقت الدولة بين قادة الإجرام ومن انجرفوا مع التيار، سُمِح للناس أن يعيشوا دون أن يُلاحقوا بعار جماعي، مؤسسات أعادت تعليم الناس المعنى البسيط لكلمة “وطن”، لا بوصفه جغرافيا، بل مسؤولية.

منذ عدة أعوام وبينما كنت اجري بعض القراءات لكتابة فيلم قصير، لفت نظري مصطلح ألماني ذاع سيطه بعد الحرب العالمية الثانية ألا وهو ” النسيان القسري” …

وفكرت ماذا يمكن أن تكون نتيجة فعل كهذا على شارع عانى الأمرين خلال سنين طويلة.. هل ستكون نتيجة هذا الصمت تراكما للحقد مؤدية لانفجار أم ستكون بلسما يفرض على نفوس الناس الشفاء؟

الشارع الألماني في البداية مارس شيئاً يشبه الإنكار. مصطلح “Verordnete Amnesie”  بالألمانية يعني “نسيان قسري أو مفروض من قبل جهة معينة”. أي أن هناك جهة (مثل حكومة، نظام، أو مجتمع) تُجبِر الناس على نسيان جزء معين من الماضي، أو تتعمد تجاهله أو إسقاطه من الذاكرة الجماعية..

كانت نتيجة تطبيق هذه المصطلح أن كثيرون صمتوا، كثيرون عادوا لوظائفهم، وكأن ما كان لم يكن.، لكن هذا الصمت لم يكن أبديًا. جيل جديد في السبعينات بدأ يسأل: ماذا فعلتم؟ لماذا سكتّم؟ .. فخرجت ألمانيا من نسيانها، لا لتجلد نفسها، بل لتتعرّى أمام مرآة الحقيقة. وهذا كان المفتاح، فلا يجب أن تكون الدولة حيادية حين يكون البلد مفككًا  ولم تكتفِ  ألمانيا  بالقوانين، أدركت أن الدولة إن لم تكن صلبة في البداية، فالشارع سينهار. ففككت النظام النازي، وأعادت تشكيل المؤسسات، صنعت دستورًا جديدًا، وضخت في المدارس معنى الانتماء غير القومي، بل الإنساني.

و كان البطل واللاعب الرئيسي في هذه الخطوة هو المواطن… فالمواطن الألماني لم يُطلب منه فقط أن يعمل وأن يكتفي برفع الأنقاض، بل كان عليه أن يُعيد اكتشاف نفسه. أن يتصالح مع ما ارتُكب باسمه أو بصمته. أن يرى وطنه بعين منكسرة، لكنه لا يزال قادراً على الحب. وهو ما تفوق بفعله.

السؤال الذي يؤرقني وتأخرت كثيرا في طرحه… في بلدنا الحبيب سوريا: هل يمكن أن نقف على العتبة نفسها؟       

أعلم أننا لسنا ألمانيا. ولسنا في القرن العشرين. لدينا تعدد، طوائف، ولاءات، ومصالح، وربما حقد تراكمي. لكن، هل البديل هو الفوضى الدائمة؟ وهل نملك رفاهية الانتقام؟

أعتقد أن العقلاء متفقون أننا نحتاج إلى عدالة تُداوي لا تُذل. ونحتاج إلى ذاكرة، لا لنحفر القبور، بل لنبني فوقها. نحتاج إلى دولة تشبه الجميع.

أعتقد أن خطة عادية لا تكفي لإنقاذنا، نحن بحاجة طوق نجاة.. علينا إعادة ترتيب أولوياتنا و التركيز على بناء المؤسسات الأساسية و ضخ القسم الأكبر من مواردنا القليلة لدعم هذه المؤسسات وأذكر هنا على سبيل المثال وزارة العدل والمؤسسة القضائية والقانونية  التي اشتهرت بالفساد والمحسوبيات خلال الزمن البائد والسعي لترسيخ قواعدها بقوة في بلدنا وتعريف الناس على معنى عدالة وقوة القانون … علنا نصل إلى مرحلة تخولنا أن نجري محاكمات لا تشمت، بل تنصف.

علينا أن نرسخ مفاهيم جديدة … فنحن بحاجة إلى حوارات لا تبدأ من القمم، بل من الأحياء، لابد من دستور لا يُخاطب النخبة، بل يشبه الشارع. والأهم الأهم… علينا أن ننشأ مدارس لا تدرّس الكراهية، بل تحمي الذاكرة. ذاكرة الشعب السوري العظيم الموغلة في القدم… ليعرف أن تاريخه لا ينحصر بعرق أو ثقافة أو دين …

تاريخنا أقدم من كل ما نعرف من قصص وحكايات … فنحن الرواة الأوائل … ولابد أن ندرك أننا بحاجة  إلى ما هو أكثر من إعادة إعمار سوريا. نحتاج إلى إعادة تعريف “سوريا” نفسها.

ما فعلته ألمانيا لم يكن معجزة. كان مسارًا مؤلمًا، بطيئًا، مليئًا بالتناقضات. لكنه نجح لأنه لم يبدأ بالسلاح أو بالأحقاد، بل بدأ بسؤال بسيط: “ما الذي يجعل الوطن يستحق أن يُبنى من جديد؟”

وفي سوريا، إن لم نبدأ من السؤال ذاته، فلن يكون للبناء معنى… فالأمل يجب أن يُكتب بلغة الناس، لا بلغة المؤتمرات.

وأعتقد ان حرائق الساحل خير دليل على هذا.. كم أتمنى لو أستطيع أن أجعل كل السوريين يزورون مواقع الحريق وأن يعرفوا أن كل الأبطال المتواجدين من رجال الدفاع المدني و رجال الإطفاء و مؤسسات وجمعيات محلية ومتطوعين من السكان المحليين و القادمين من أماكن ومدن مختلفة اتفقوا على شيء واحد ألا وهو سلامة الوطن … لأن الجميع يدرك أنه إذا احترق الوطن وغاباته وخيراته فلا حاجة للبشر.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن أمين حداد

أمين حداد

شاهد أيضاً

صدور رواية “الطاغوت” للروائي فيصل خرتش عن دار جدار

صدر حديثا عن دار جدار للثقافة والنشر بالإسكندرية – مالمو، رواية “الطاغوت” للكاتب السوري المعروف …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *