الرئيسية » رصاص خشن » رواية “المهاجر” للكاتب محمد النجار.. رحلة البحث عن الحرية

رواية “المهاجر” للكاتب محمد النجار.. رحلة البحث عن الحرية

تقدّم رواية “المهاجر” للكاتب الفلسطيني – البلجيكي محمد النجار عملاً سردياً إنسانياً يلامس واحدة من أكثر التجارب إيلاماً في الواقع العربي المعاصر: تجربة الخروج من الوطن بحثاً عن الأمان، والانزلاق في رحلة طويلة من القلق والانتظار واللايقين. ومن خلال شخصية فلسطينية تنطلق من غزة المثقلة بالحصار والحرب، يبني الكاتب عالماً روائياً يلتقط بتفاصيل دقيقة ملامح الإنسان وهو يتشبث بحلمه في النجاة دون أن يتخلى عن محاولته لفهم العالم من حوله.

ينطلق عبد القادر من غزة باعتبارها نقطة البدء، لا باعتبارها مجرد مكان جغرافي، بل كهوية يعيش فيها الألم كما يعيش فيها الأمل. يصف الكاتب حال الفلسطيني الذي يقف بين مطرقة الخطر وسندان الرغبة في حياة كريمة، فتكون الهجرة هنا فعلاً اضطرارياً لا خياراً، ولحظة انفصال عن جذورٍ لا يستطيع المرء أن ينسلخ عنها تماماً.

يواجه عبدالقادر معاناة مركّبة، الخطر اليومي، القمع، الفقر، وانعدام الخيارات. لكنه فوق كل ذلك يواجه منظومة بشرية تزعم احتكارها لصوت الله. يجد نفسه مراقَباً ومحاصَراً من قبل من يتحدثون باسم الدين، أولئك الذين يمجدون الموت ولا يتركون للحياة مساحة وللفرد أن يختار طريقه، وهذا الحصار الروحي أشدّ وطأة عليه فيصبح الرحيل ضرورة، أكثر من كونه رغبة.

يدخل عبدالقادر مصر بعد معاناة ورحلة طويلة بين السماسرة على طرفي الحدود، وهو يحمل وصمة كونه “فلسطيني من غزة”، وهي هوية محمّلة بالصراعات ومحصورة في النظرة السياسية والأمنية. يكتشف أن الناس يُعاملون أحياناً وفقاً لمزاجيات لا قواعد لها، وأن الانتماء لبلد محاصر يجعل صاحبه غريباً في كل أرض.

يتعامل مع نقاط التفتيش، الإجراءات، الشكوك، والاستغلال. وتتحول مصر في الرواية إلى جسر صعب، لا بديل عنه، لكنه محفوف بالمهانة واللايقين، ويعيد إلى البطل شعور أن الإنسان قد يصبح في لحظة مجرد “ملف” أو “قضية” لا أكثر.

ومن مصر يتجه إلى أوروبا، في مسار يعكس واقع آلاف المهاجرين الذين يجوبون الحدود بين العواصف السياسية والاقتصادية. لا يكتفي النجار بسرد المعاناة الجسدية، بل يتعمق في الجانب النفسي الذي يرافق رحلة الهاربين من وطن منهك، فيكتب عن الخوف، الأمل، الشعور بالذنب، والارتباك بين الماضي الذي يلاحقهم والمستقبل الذي لا يتضح معالمه.

يحط عبد القادر رحاله في مخيم للاجئين في بلجيكا، وهنا تتسع الرواية لتصبح فضاءً متعدد الثقافات. يلتقي البطل بشخصيات تنتمي لبلدان مختلفة، ويكتشف أن اللجوء ليس مجرد حالة سياسية بل منظومة اجتماعية معقدة. يسلط الكاتب الضوء على مفارقة مؤلمة: حصول بعض من لا يستحقون على الإقامات، ورفض طلبات آخرين يحملون فكراً وقيماً إنسانية رفيعة. هذا التناقض يعكس هشاشة منظومات التقييم الغربية وابتعادها أحياناً عن جوهر العدالة.

بعد حصوله على الإقامة ينتقل البطل إلى مدينة بروج، وهناك تأخذ الرواية منحى مختلفاً. تنساب اللغة عن المدينة كأنها قصيدة حب. لا يكتفي الكاتب بوصف المكان؛ بل يجعل منه مرآة للروح التي أنهكتها سنوات الرحلة. تتجلّى بروج كمدينة ساحرة تعيد إلى البطل توازنه الداخلي، فيجد فيها فسحة للحياة وللكتابة وللتأمل، وكأن المدينة هي المكافأة التي تمنحها الحياة لمن يصبر على العاصفة.

يكتب محمد النجار بلغة سلسة تجمع بين الوصف الحسي العميق والتأملات الفكرية. يمتاز السرد بالواقعية من جهة، وبالمَسحة الوجدانية من جهة أخرى، ما يجعل الرواية وثيقة إنسانية بقدر ما هي متعة أدبية. يتقدم النص على شكل محطات متتابعة، ما يعكس طبيعة الرحلة نفسها: قفزات بين الأمكنة والوجوه والمشاعر.

المهاجر رواية البحث عن الحرية والأمان والكرامة، وعن الذات في عالم مضطرب. وهي في الوقت ذاته شهادة على قدرة الإنسان على مواصلة الحياة مهما اشتدت العواصف. ينجح محمد النجار في تحويل قصة فردية إلى سردية جماعية تمثل تجربة ملايين العرب الذين وجدوا أنفسهم على طرق الهجرة، ليقدّم عملاً مؤثراً، يجمع بين الشعرية والواقعية، وبين الألم والأمل، وبين الفقد والاحتمالات الجديدة.

صدرت الرواية عام 2022 عن دار كنانة في العاصمة السورية دمشق، وجاءت في 414 صفحة من القطع المتوسط، أمَّا محمد النجار فهو روائي وشاعر فلسطيني من مواليد غزة 1956، لعائلة فلسطينية هُجّرت إلى غزة في عام 1948، وله العديد من الإصدارات بين الرواية والقصة والشعر. 

عن فراس الهكَّار

فراس الهكَّار
كاتب وصحافي سوري، عمل في الصحافة السورية منذ عام 2006م، نشرت مقالاته وتحقيقاته الصحفية في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية السورية والعربية، وتُرجم بعضها إلى اللغتين الإنكليزية والهولندية، واستخدمت كمراجع في كتب وأبحاث أكاديمية في بعض الجامعات، كما شارك في العديد من الندوات والمحاضرات حول الحرب السورية بدعوات من بعض الهيئات والجمعيات في مملكة بلجيكا، وهو ناشر ورئيس تحرير مجلة قلم رصاص الثقافية التي أُطلق عددها الأول في صيف عام 2016.

شاهد أيضاً

هذه المرّة أنا الذي حكيتُ لِجَدّي

 كانت كلّما ضاقت بي السبل، واهتزّت قدماي على طريق عبّده لي جدي بالحكايا والأمثال التي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *