الرئيسية » رصاص خشن » الشامة أكبر نقطة !

الشامة أكبر نقطة !

أحمد كرحوت  |  

تلك الشامة الغارقة في وجهها الأسمر الصغير تذكرني بسؤال رددته كثيراً على مسامع الأصدقاء: “هل من أحد هنا يتقن اللغة الفارسية ليترجم لي أغنية؟” أنا المولع بالأغاني الفارسية بقدر ما أحب النوم في الحدائق العامة، لم أكن أعلم حينها مقدار أهمية الكلمات أو معانيها فكما يبدو واضحاً أني لم أفهم شيئاً من الأغنية سوى لحنها الغريب ومع ذلك حفظتها عن ظهر قلب، حفظتها أصوات بلا معان فماذا يمكن أن يضيف المعنى على ما شعرت به مسبقاً؟، قلت مرة: إن الكلمات تحيي وتميت..فقالت الموسيقى: أنا أحيي وأميت، قلت: الكلمات تخرج من الفم للأذن..فقالت الموسيقى أنا أخرج من القلب للأذن، ولكن ما هي العلاقة بين شامة بنية اللون تحتل نقطة صغيرة على طرف الشفة العليا لفتاة صحراوية وبين كلمات أغنية مبهمة اللغة بالنسبة لشخص لا يتقن فيها حتى كلمة أحبك أو مرحباً..

ذاك أنك لا تعرف كم أنت محكوم بهذا الوجه ككل، لكنك تشعر دائماً أنك محتاج أن تعرف أكثر عن الشامات، الشامات التي تحتل دائماً ركناً مميزاً في الوجه وكأنها تغيظك كأن تكون على الشفة العليا أو أسفل العنق الطويل أو متربعة على جفن أعلى أحدى العينين ما يعطيها ملامح التعب أكثر من العين الأخرى وكأنها تحمل كلمات الأغنية ذاتها مع موسيقاها وآلاتها وصوت مغنيها الأجش، الشامات هويات متباينة فلا شامة تشبه الأخرى في الموقع على الأجساد الملونة واللون والحجم هي أشبه بالبصمة لكنها تغير مكانها وفقاً لحاملها.

يقال في الشامات إنها نقاط تشكل مركزاً مكثفاً للخلايا الصبغية في الجسم وكلما زاد عددها قل تلون الجلد، يقال أيضاً إنها تدرج تحت  مسمى مرض ( الأورام الجلدية ) لكن العلم دائماً يقلب الأشياء الجميلة إلى أمراض وآفات حتى أن الحب ذاته أدرجه بعض العلماء إلى أنه هرمون تحت مسمى مرض (الأورام الجلدية) لكن العلم دائماً يقلب الأشياء الجميلة إلى أمراض وآفات حتى أن الحب ذاته أدرجه بعض العلماء إلى أنه هرمون تفرزه إحدى الغدد!

تخيلوا معي أيها السادة كم هو بشع وكريه أن نبحث دائماً عن أسباب أو مكونات أشياء قد تعني لنا أكثر من أن تكون نقطة أو حتى ذرة غبار وهذا أيضاً ينطبق على من يبحث دائماً عن تفسيرات لوجوده ووجود الكون وكوكب الأرض الذي يشكل (بالنسبة لي على الأقل) شامة بمعناها الشعري الفاتن في جسد الكون اللامنتهي، هذا الكوكب الملون المليء بالنساء الجميلات والعشاق والحدائق والأزهار والكتب ورائحة الحب على الكرسي الأحمر في أحدى زوايا المنزل والموسيقى واللغات والأغاني التي نرقص على أنغامها دون حتى فضول معرفة معانيها وكنزات الصوف وأكواب الشاي بالقرفة والحبيبات والأمهات والذكريات والسفر والطائرات والقناني الفارغة بعد سهر طويل والتراب والطين والأحذية المريحة لأقدام متعبة من المشي على جدران الوقت، هذا الكوكب الحقير الكبير بطفولته والمدلل بشيخوخته المليء بالحروب والموت والولادات هذا المتناقض بوجوده وانعكاساته على وجودنا جميعاً كيف يمكن لكل هذا أن يكون مرضاً، إن كان هذا الكوكب كتاباً سيكون الكتاب الوحيد الذي أقرأه دون أن أتطرق لأي سؤال فيه ولن أجادل في أيّ من أسباب أحداثه أو أناقشها سأكتفي بتقليب صفحاته والتغزل في الشامة المحتلة طرف الشفة العليا في كل صفحة منه وأشرب نخب بورخيس الذي قال يوماً:

(الكتاب الذي لا يحتوي على نقيضه يعتبر كتاباً ناقصاً)

يا إله الكمال إذاً، دعني أستمتع بكل ما في صفحاتك من مصائب فالوقت يمضي ولا ينتظرني إن توقفتُ عن القراءة لأحاول فهم فكرة مضى عليها ألف سنة أو حتى يوم واحد مما يحصون.

شاعر سوري ـ دبي | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية 

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

“برلتراس” أو رواية الوعي بجغرافية التشاؤم

هي جغرافيا التشاؤم بالمعنى الذي لا ترقى إليه الكثير من العقول، كون خلفيته تتأسس على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *