الرئيسية » رصاص خشن » قبل السقوط بدمعتين

قبل السقوط بدمعتين

أحمد صهريج  | 

نظراته إليّ بدت واضحة، وأسئلته الفظّة وشت بما يدور في سرّهِ من شكوك، أشعلتُ لفافة تبغٍ ورحتُ أبثّ سمومها بوجهه دون مبالاة.

عجزَت أساليبه العديدة عن استخراج معلوماتٍ تشبعُ فضوله الساذج، حينما استرسلَت عيناه الشبقتان بافتراس بقايا جسدٍ كان عريناً يستمدّ الحياة من زمجرة ليثٍ غادره باكراً دونما استئذان.

ينعقُ الهاتف مقاطعاً البائع الذي استحال رجل أمن لمجرد سؤالي له عن أحد بيوت ذلك الحي الغارق في الظلام.

ارتخت عقدة حاجبيه، وانتفض عن عرشه المعدني الصدئ مطأطأً رأسه استجابة لأوامر المتصل، ظننت أنه نسي أمري تماماً، إلى أن أبعد سماعة الهاتف عن أُذنه و سألني عن اسمي.

لم تخفَ عليّ لهجته التي تغيرت عندما تأكد أنني المعنية في تلك المكالمةِ الهاتفية، لكن رغبةً شديدةً انتابتني بالعودةِ إليه وطبعِ تشققات كفي الخشن على وجههِ الأملس، فعيناه الوقحتان ظلتا تتبعانني حتى ابتعدتُ برفقة الصبيّ الذي أرسله ليدلني على البيت المنشود.

لن انكرَ شعوري الطفيف بالضعف أمام براثنه، لكن هذا الشعور ليس مبرراً لغرقِ السفينة بعد وفاة قبطانها.

                                                      *************

أجبرنا مرض الخادمةِ المفاجئ على الاستعانة بهذه الخادمةِ مؤقتاً، ولأن موعد وصولِ الضيوفِ بات وشيكاً، أوكلتُ إليها عدة مهماتٍ توجب إنهاؤها منذ ساعات، يالحظيّ التعيس، أما كان على تلك الحيزبون أن تستأذن قبل أن تتغيب عن عملها؟

أيعقل أن يكون المرض سبباً كافياً، ولماذا تمرض أصلاً، فما ندفعه لها ليس قليلاً، رغم إظهارها عكس ذلك أحياناً.

ما عاد هذا الكلام مجدياً بعد الآن، فكلما مررتُ بالمرآة أتذكر تصفيفَ شعري، والتبرج، واختيار الثوبِ المناسب.

لكن منظرَ الخادمة الجديدة أرّقني وشغل تفكيري، فلعينيها بريقٌ لم آلفه عند سابقتها، ونظراتها الهادئة لا تبدِ أيّ اهتمامٍ لما حولها من أثاثٍ نفيس، وترفٍ وبذخٍ واضح، وجسدها النحيل المكسوّ برقعٍ رثةٍ تكاد تكون ثياباً لا يدلّ على أنها قضت حياتها في خدمة المنازل.

صمتها يغيظني، ويشعل حممَ الغضبِ التي تنتجُ عن عجزك امام شخصٍ يشتمك دون أن تمتلك وسيلةً تردّ بها عليه، لكنه ليس أفظعَ من صوت تلك العجوز التي تطهو طعام العشاء وهي تناديني بين الفينة والأُخرى لمساعدتها، لماذا أتحمل عناء الطهي وهناك من ينتظرُ اتصالاً هاتفياً واحداً ليملأ مائدتي بما لذّ وطاب!

إحساسٌ بالشفقة ينتابني عندما أراها تجهدُ نفسها بعملٍ يفوق طاقتها، كي لا تَشعر وتُشعر من حولها بأنها بلا قيمة، كحذاءٍ مهترئ مرميٍّ في زاوية الخزانة، ولا تستطيعُ التخلصَ منه كونه يخصّ شخصاً عزيزاً عليك.

طلبتُ منه مراراً أن يرسلها إلى واحدةٍ من تلك الدور التي تؤوي العجّز وكبار السن، لكنه رفضَ خوفاً من الفضيحةِ التي ستتناقلها ألسنة الناس.

                                                      *************

غادرَ ضيوفهم مخلفين ابتساماتٍ صفراء، وكومةٍ من عظامٍ لكائناتٍ كانت حيةً يوماً ما، وبضعةِ كؤوسٍ أنيقةٍ بدت أقرب إلى أميرات “ديزني” بأجسادهن الممشوقة، وفي جوفِ إحدى تلك الأميرات، لمعَت قطرةٌ أو اثنتان من سائلٍ أحمر قانئ.

تملكني رعبٌ أفقدني الإحساس بأقدامي، وانتابتني قشعريرةٌ باردة، ببطءٍ شديد وحركةٍ لا إرادية تحسّسَ كفي الأيسرَ رقبتي، أسفل أذني اليسرى تماماً، حيث لامسَت أصابعي بقعةً اكتوت بلسعةٍ حارة، وسرعان ما تبددت تلك التهيؤات لحظة لمحتُ قارورةً نقشت عليها كتاباتٌ بلغةٍ أجنبية، تشبه تلك التي تشتريها جارتي عادةً في أعيادِ رأسِ السنةِ الميلادية.

                                                      *************

ضقتُ ذرعاً بتلك الخادمة، فشرودها الدائم يشعرني بالقلق، أظنُّ أن ما تخطّط له أكبر من مجرّد سرقة، فزوجي زيرُ نساءٍ خبيث، وفرصةٌ ذهبية كهذه لن تفوّتها تلك الوضيعة.

لن أسمحَ لهذا بأن يحدث، سأدافع عن قصري، جنتي ومكانتي، عليها أن تدركَ حدودها الطبيعية، وأتقنُ جيداً كيفية رسمِ تلك الحدود.

لكن حرصي على مراقبتها المستمرةِ لم يفلح تماماً، فالعجوزُ التي أنهَت مؤخراً حفلةَ الطهي لا تنفكّ تزعجني باقتراحاتها الفارغة، ولم تعِ بعدُ أنني الملكةُ التي تتربع على عرشِ هذا البيت، وأنا وحدي من تصدر الأوامر هنا.

يالها من غبية، أتحسبُ أنني عاجزة عن منح ما زاد من الطعام لحارس المبنى؟

هي حتماً لا ترى أبعد من أنفها المدبب، عذراً منك أيها الناطورُ الشرِه، لن تفيضَ عليك نعمنا اليوم، فلديّ غزالة شاردة عليّ إعادتُها إلى قطيعها أسفل القاع.

                                                      *************

خلّفت نبرتها البرجوازية ونظرتها الفوقية جرحاً أعمق من ذلك الذي تسببَت به الشظايا التي تناثرَت إثرَ انزلاقِ منفضةِ السجائرِ من يدي.

خيطٌ رفيعٌ أثقل قدمي التي راحت ترتعش بتزامنٍ مع دقات ساعةٍ شرعَت تواسيني بهمساتٍ متواترة، لم أجرؤ على سؤالها عن السبب، إلى أن لاحظتُ إطاراُ ذهبياً احتوى بين زواياه المزركشة صورةً لسيدةٍ بفستان جذاب، وعقدٍ ماسيٍ أنيق.

لجلستها رهبةٌ مريبة، ومن عينيها يتطايرُ غيظ هيرا وكبرياؤها، لاشكَّ أن لأظافرها المطلية بلونٍ أحمر مشابهٍ نماماً للون الفستانِ أثر كبيرٌ في هذا السكون المطبق…كم هو غريب هذا اللون، أيعقلُ أن يكون ناتجاً عن نزيف الزنبقة المقيدة فوق كتفها بإحكام؟

أبَت عيناي _لسببٍ ما_ أن تفسحَ المجالَ للدموع بالظهور، قد يكون لبراعتي في كبتها فضلٌ في ذلك، فما قاله زوجي على فراشِ الموتِ نقشَ بذاكرتي للأبد ،قبل أن يودّعني بابتسامته الحالمة، منتصراً على خصومه البرابرةِ الذين ردّوا على سياطِ أقلامِه بالعصيّ والهراوات.

بالكاد استطاعَ رفع يده المضرّجة بدمائه الطاهرة لمسح الدموع المتدفقة من عينيّ بغزارة، حاولتُ جاهدةً منعه من إجهادِ نفسه، وتحريك جسدِه المحطم، إلا أنه كان أقوى حتى في أكثر حالاته سوءاً.

خيّم الصمتُ على غرفتنا اليتيمة، وهدأَ أنين السرير الذي احتضنه خاشعاً، منصتاً لآخر وصاياه: كفي عن البكاء، ولا تلوّثي الحزن بالدموع المالحة، فالحزن إله منفيّ في القلوب البيضاء، لأنينه صدىً لا تدركه آذان البشر، كنهدٍ ناضحٍ مهملٍ فوق صدر عذراءٍ شهدَ مواسمَ الحصادِ دون أن يقطف.

 ليسَ من عادتي التنصتُ أو التجسسُ على أحاديث الآخرين، لعدم اكتراثي بتراقص الترهات من حولي، لكن المصادفةَ شاءت أن يصلَ إلى أذني أجزاءٌ من حوارٍ بين السيدة وحميّها، انتهى بقرارٍ مفاده منحي وجبةً من طعامِ العشاء.

لن أنكرَ أنه نبلٌ وكرمُ أخلاقٍ منهم، لكن ما أثار قلقي هو غيابُ البسمةِ عن قاطني هذا القبرِ المنمق، و كلّ من فيه يشعرني بأنني دخيلةٌ عليه، كضيفٍ غير مرحبٍ به في حفلهم التنكري، باستثناء البدين الذي تتبعني عيناه كضبعٍ يسيل لعابه لطريدةٍ ضمن نطاق سيطرة لبؤةٍ تحوم حول صيدها الثمين.

شيءٌ ما بداخلي يحثّني على ركلِ البابِ والمغادرة، فالجدران بدأَت تضيقُ أكثرَ فأكثر، وأقدامي تتوقُ إلى أيامِ الطفولة التي قضينها حافيةً أجوبُ الأزقّةَ دون حذاء، لن أكون بذيئةً لأستديرَ و أكيل عليهم سيلاً من الشتائمِ والبصاق، بل سأتركُ حذائي و أركض مسرعةً إلى الشارع لأعانقَ أول طفلٍ يبيع الورودَ وبطاقاتِ اليانصيب عند إشاراتِ المرور، سنتبادلُ الابتسامات دونُ مقابل، ونضحكُ ونبكي وندخنُ علبتي سجائرَ وطنيةِ كريهةِ المذاق، ثم نبحثُ عن إلهٍ في زاويةٍ معتمة لإحدى الأزقة الفرعية، ونتوسّد عطفه، لننامَ على أنغامِ أغنية أرتجلُها وألعنُ بها عالماً عبثياً لا يستحق أن ندنّسَ لأجله عمراً أقصرَ من لفافةِ تبغٍ بين اصبعي عاشقٍ في ليالي كانون الماطرة.

                                                      *************

غريبٌ هو أمر تلك المتعجرفة، لم أتوقع منها رفضَ وجبة طعامٍ فاخرةٍ حُرّمت على ألسنةٍ لم تعرف من مذاق الأطعمةِ إلا أحقرها.

يستحيل نسيانُ الموقفِ الذي حُشرت به، حيث شعرت أن تلك الحشرةَ التي سعيتُ جاهدةً لدهسها راحت تكبرُ بسرعة، وتغدو أضخمَ وأضخم، جفّ لساني الذي كسته مرارةٌ كريهة، وكدتُ أختنق باللعابِ الذي تحجّر بحلقي فجأة.

أعرف أنني بدوت لوهلةٍ عاجزةً أمام تعفّفها، لكن المفاجأة التي احتفظتُ بها لنهايةٍ غير متوقعةٍ كهذه نجحَت كترياقٍ لغرورها الأجوف، فبعد أن رفضت بقايا العشاء مكتفيةً بأجرها فقط، احمرت وجنتاها خجلاً، وراحت تذوب كشمعةٍ رقيقةٍ سقطَت بلمسةٍ صغيرةٍ في جحيمٍ متأجج، حين صرختُ بوجهها بأن تلقي تلك الأكياس في الحاوية المركونة بزاوية الحي، موضحةً أن ما في تلك الأكياس بقايا طعامٍ…وقمامة، ثم ودعتها بنصفِ ابتسامةٍ ساخرةٍ، أترقب بتعطشٍ تلألؤ الدموعِ في عينيها الزمردتين.

سورية | خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *