الرئيسية » يوميات رصاص » يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (24)

يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (24)

بيروت.. تلك المرأة المتشمسة على شاطئ السياسيين العراة.. تتكئ برأسها إلى الجبل بينما تداعب أمواج البحر أصابع قدميها، انظر إليها من الأعلى.. كم تغيرت وزادت ابنيتها ارتفاعاً على مساحة جسدها الفضي المغطى بنمش من شظايا حرب لا تشبه حربنا لكنها حرب.. ومن بعيد باتت تشبه دبيّ المعدنية المختبئة خلف المرايا تعكس نوافذها الخضرة بدل عواصف الرمال.

أحب عمارتها.. شهود الحرب الأهلية جيرانٌ لأبنية مليئة بالحياة..

لا يحق لأحد أن يمحو الذاكرة.. لا يحق لأحد أن يزعج القرّيص النابت بين أنقاض الأبنية القديمة.. أو يرمم ثقوب الرصاص ليمنع العناكب من بناء بيوتها..

 ليتذكروا.. ولنتذكر أبداً..

*****

دمشق أيضاً كانت تحتفل بأضواء زينات أعياد الميلاد قبل أن يثقل الشهداء حاراتها، وقبل أن تظلم شوارعها بالتقنين الكهربائي الناتج عن الاستهداف المستمر لخطوط الغاز وعن سوء إدارة الحكومة التي ما تزال تصر رغم مرور سنوات خمس أنها ليست “حكومة حرب”.. فالحياة في دمشق تسير “بشكل طبيعي” وفق ما تتناقله المحطات الإخبارية المحلية سيئة الإرسال في لقاءاتها المُلحّة مع المارة المتعبين في الطرقات.. 

لم يعد العيد عيداً في دمشق، أما بيروت فتتزين نوراً وفرحاً وبهجة..

لكنك كسوري عابر في شوارعها تشعر بالغرابة، تعتصرك الغصة، كل ما فيها يذكرك بذاكرتك في مدينتك، كيف كانت وكيف كنا.. يلازمك الحنين فلا تعرف أين أنت.. أفي بيروت؟ أم في تلك اللحظة من ذاكرة مدينتك، في التوقيت نفسه، لكن منذ سنوات.. بين أصدقائك ومعارفك ممن غادروها الآن.. تستعد للاحتفال برأس السنة.. لاستقبال عام جديد مليء بالانتظارات.. والأحلام..

*****

أجلس قرب السائق وأنا أفكر بنوبا.. قطة تعرفت إليها في بيروت.. خجولة ومنزوية.. مددت لها يدي فابتعدت.. طلبت من رائد أن يضعها في حضني لكنه أخبرني أنها تخاف البشر..

ومن لا يخافهم؟

البشر كائنات قادرة على الأذية المجانية.. لمجرد التسلية يقطعون ذيل نوبا ويعطبون أحد

قوائمها الأمامية حتى أصبحت تقفز على ثلاث.

ومازلنا نتساءل: من أين أتى كل هذا العنف؟

إنه مضمر في جيناتنا نحن البشر..

 يبدأ بكسر الطفل لغصن شجرة، ثم بصيد عصفور ببارودة خردق أو إلقاء حجر على كلب شارد، بصب البنزين داخل وكر النمل وإحراقه بعود ثقاب ومراقبة النملات وهن يتلوّين.. أو بقطع جناح فراشة وتفتيته بين السبابة والإبهام حتى يترك غباره الملون عليهما.

*****

السائق متوتر بعد تفجير حاجز الفرقة الرابعة قرب معبر الجديّدة الذي حدث مساء أمس، يخبرنا بأنه أول سائق تجرأ على الانطلاق من بيروت رجوعاً إلى دمشق، يخشى أن الطريق ما يزال محوّلاً مما سيطيل رحلتنا القصيرة نسبياً لساعات.

لم أكن أعرف بالتفجير الانتحاري.. أو بالأحرى لم أعد مهتمة بمتابعة أخبار التفجيرات والانتحاريين.. لا أبالي إن مت بسببها… المهم أن أموت على الفور.. فقد خاوينا الموت بعد خمس سنوات على الحرب.. نراه يسير قربنا، يتجاوزنا أو نتجاوزه.. فنحن أخوته السوريون.

في المساحة الفاصلة بين مقعدي ومقعده تراكمت باكيتات المارلبورو ونقود من فئة المئتين ليرة.. رشاوي صغيرة للحواجز المتعددة للنقطة الحدودية السورية ولما بعد عبورنا.. فلا عجب أن الحقائب لا تُفتّش والسيارات المفخخة تمر.

*****

ورغم كل ذلك ما أن تنبسط دمشق أمامي وسط ضباب بارد.. أتنفسه فترتد لي الروح…

بيروت 19/12/2015

 موقع قلم رصاص الثقافي

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *