آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ناعم » «تشكيل»..قصة قصيرة

«تشكيل»..قصة قصيرة

هالة مرعي  | 

عادت “مواهب” من الخارج للتو،  أقفلت البوابة الخشبية، ثم خلعت نعليها عند الباب، وبقيت حافية كعادتها كي تفرغ شحناتها السلبية في أرض الدار، ثم اتجهت بلهفة إلى غرفة المعيشة لتتفقد عائلتها الصغيرة، فقد تركت زوجاً جميلاً من طيور الجنة في القفص لا يهدأ عن صخب وزقزقة دون أن تفهم أهو تناغم أم مشاجرة،  وسلحفاة هرمة، أسمتها “وحيدة “.

فجعت بالجريمة عندما اقتربت من القفص، فالعصفور الذكر مازال ينقر عيني الأنثى التي تنزف، وهي جثة هامدة.

هناك جريمة ؟  صد ق حدسها !

كان عليها أن تبقي ذلك الصلف المغرور وحيداً بلا أنثى تؤنسه، وقد بدا غير مكترثٍ لفعلته القبيحة، فيواصل بعد وقت قليل شدوه،  وتنقله، واستحمامه في حوض الماء الصغير، بعد أن سحبت جثة  الأنثى المقتولة خارجاً،  وبدّلت ماء الحوض المتسخ.

تتساءل في استغراب كبير، أي حنٌق ذاك الذي دفعه لارتكاب تلك الجريمة، أتكون الرغبة؟

اللوحات على الجدران ساكنة لا تتحرك، تلقي عليها نظرة خاطفة من الأعلى إلى الأسفل، ومن اليمين الى اليسار، تمسحها بنظرة شاملة  تشبه المسح الجغرافي، ثم تمسك ريشتها وتعصر قليلا من عبوة اللون الأحمر،  وتمدده بالماء لترشق اللوحة الطبيعية، قيد العمل، ببقعة حمراء، خط أحمر، نقطة حمراء كي لا تنسى انطباعها عن هذه الجريمة التي كانت أداتها منقاراً أحمرَ.

من تنورتها برزت ساقا أنثى مهملتان، لم تمَّد لهما يد العناية منذ أمد طويل، وعند الخصر بدت البدانة مؤشراً واضحاً لعدم الاكتراث بأي شيء.

الحب كذبة والجمال ليس شفيعاً، هذا ما فكرت به، وهي تواري جثة العصفورة في الحديقة الصغيرة لمنزلها، وفكرت بأنّها ستدع العصفور يكمل حياته وحيداً كراهب، وستخفض كمية زاده من الطعام والشراب.

تظهر وحيدة، سلحفاتها، قادمة من تحت السرير،  فتتذكر أنّها تطالبها بالوجبة من الخس الذي تحضره خصيصاً من أجلها، فهي لم تشعر بالجريمة، ولا تفكر بالحداد، حتى ولو كانت شاهدة لما استطاعت قول شيء أو فعل أي  شيء، لديها درع واقٍ صلب سيحميها من مهاترات منقار أحمر.

خارجاً مازال الجو خريفياً عاصفاً، الريح تعبث بما بقي من أوراق، تعزلها، تطيّرها وترمي بها بعيداً، والمطر الخفيف بدأ يشتد ليصبح قاتلاً هو أيضاً، عابثاً يحملُ الخراب.
تمنّت الوقوف تحته بلا مظلة، أن يجلدها، يصفعها، وتمنّت أيضاً أن تزرعها الريح في مكان آخر، أن تحملها فوق شجرة، أن تشردها كطائرة ورقية، عالياً، بعيداً عن جاذبية الأرض.

مواء القطة أمام الباب أعادها من شرودها فوق تلال الغيم مع السحب المكتظة بجزيئات الماء إلى واقع الحياة، الجوع الذي يدفع الكائنات جميعها للخروج عن الصمت،  فثمة فضلا ت طعام تحتفظ بها من أجل القطة البيضاء التي تلازمها منذ أكثر من عامين.

تجلس لتطرزالمفارش بعناية فائقة عند المساء، و ترفع قطع القماش المتبقية بعد أن تأخذ المقاسات المناسبة ، فهي تحرص على أن تكون بلا زيادة أو نقصان، و تمقت الهدر في كل شيء، في الطعام و الأحاديث  وتقيس الأمور بميزان حساس.

في المطبخ، ترفع مؤشر الصوت في الراديو الصغير فوق الطاولة  ليأتي صوت فيروز من إذاعة أمواج التي تبث من مدينة اللاذقية.

“عم يلعبوا الولاد . . . عم يلعبوا”

وأي لعب هذا؟ الزمن يجعلك تكبر ولو تحت درع، هاهي وحيدة، سلحفاتها غدت معمّرة، لن يجمعها قفص بأي أحد. ستقف الرغبة عائقاً بين ريشة تلّون، ومنقار أحمر يقتل.

الخلق هبة، ستكمل لوحاتها، وتطرز المفارش، وتتأمل، فما الحياة إلاّ تشكيل، ومعرض قد تعرض به لوحاتها.

كاتبة وقاصة سورية  |  خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *