الرئيسية » ممحاة » عن عبد السلام العجيلي ورقة هارون الرشيد

عن عبد السلام العجيلي ورقة هارون الرشيد

طلال سلمان  |  

تتقلب في بحر المواجع حزناً على من كان بشارة بحياة أفضل لجيلنا ثم غادر، في قلب الكمد، بينما يعتصرنا الخوف على مستقبلنا وحاضرنا يغرق في دماء من كانوا مصدر الامل بغدٍ أفضل لأمتنا بمختلف أقطارها.
..ولقد أُتيح لي أن ازور الرقة مرتين: الأولى بدعوة من الروائي الممتاز “طبيب الأمة على شواطئ الفرات” الدكتور عبد السلام العجيلي، الذي كنت عرفته قبل سنوات طويلة، وحين كان يكتب زاوية طبية في مجلة “الاحد” التي عملت فيها بداية الستينات..
أما الثانية فقد أسعدني انني كنت بصحبة المثقف الكبير والخبير الاقتصادي الممتاز الدكتور عصام الزعيم الذي لم يتحمل روتين الادارة الحكومية العجوز فكان عليه أن يستقيل من الوزارة قبل أن يُقال، وينصرف إلى دراساته وأبحاثه المميزة بعيداً عن المناصب الرسمية التي تحتاج فيها إلى الرضا السامي لكي لا تفشل منذ اليوم الاول…
فأما الرقة، فقد جدد بناء القرية القديمة التي كانت قائمة في موقعها الخليفة العباسي هارون الرشيد، وأعطاها اسمها الجديد، واتخذها مصيفاً لطيب مناخها، وكان يقصدها للاصطياف فيها قاطعاً طريقاً مشجرة من عاصمة الخلافة في بغداد اليها، وهي تبعد عنها نحو أربعمائة كيلو متر..
هنا بعض ما كنت سجلته في اوراقي بعد الزيارة الأولى التي استضافني فيها نادي الرقة الذي يُشرف عليه المهندس عبد العظيم العجيلي، شقيق الأديب الكبير..

*****

دخلنا الرقة من خاصرتها، وكان معنا من يرشدنا إلى بيت الدكتور عبد السلام العجيلي الذي صار اسمه أداة تعريف لهذه المدينة جنباً إلى جنب مع هارون الرشيد وبضعة خلفاء آخرين أموها عبوراً أو أمضوا فيها إجازة صيف.
كان الأديب الثمانيني قد أمضى الليل معنا في حرم مدينة الثقافة بمدينة “الثورة” يروي صفحات من تاريخ سوريا في سنواتها الأولى للاستقلال، وصولاً إلى الحرب الإسرائيلية لاحتلال فلسطين 1948، والوقائع التي رافقت تطوعه مع أكرم الحوراني وسائر من انضم إلى”جيش الإنقاذ.”
وكان ممّا حدثنا به واقعة الألفي دينار أردني وقد أراد رئيس الجمهورية آنذاك شكري القوتلي أن يقدمه لهما، مع التأكيد أنه من ماله الخاص وليس من مال الدولة، ولذا فهو بالدينار، وأنه يقدر أنهما سيحتاجان إلى بعض المصاريف ومن واجبه كصديق شخصي أن يقدم ما يقدر على تقديمه لتسهيل مهمتهما الجهادية ما دام يتعذر عليه أن يذهب بنفسه لنصرة شعب فلسطين والمساهمة ميدانياً في رد العدوان عنه.
الجمل المعترضة في حديث العجيلي تكاد تكون أظرف من النص، ففيها من الشعر كثير، وفيها شيء من عبق التراث، وفيها أيضاً وقائع وحكايات تؤكد على المعنى المقصود، مع ضحكات قصيرة تصلح فاصلاً كما تصلح استطراداً بوسائل إيضاح طريفة أو مستحدثة، تستدعيها ذاكرة فيل لا تنسى أبسط التفاصيل، فإن غفلت عن اسم أو عن مطلع قصيدة أو عن تاريخ انتبهت بعد دقائق قليلة أو نبهك صاحبها معتذراً عن هذا النسيان المؤقت، بينما أنت تحاول أن تحفظ في ذاكرتك التي خرمها التعب الأسماء والوقائع والدلالات.
بعد الغداء، أراد المهندس عبد العظيم العجيلي أن يعطي أخاه المحدث الغزير بنوادره والممتع بأسلوبه المميز في السرد، إجازة قصيرة، فاستذكر واقعة محددة وأراد أن يستشهد بأبيات من الشعر القديم، الجاهلي على الأرجح، فلما أعجزته ذاكرته التفت إلى عبد السلام مستنجداً… لكن عبد السلام كان منهمكاً في حديث آخر يستدعي منه التركيز، فعصت عليه الأبيات المطلوبة. ولما لم نكن لجنة فاحصة، فقد استغرقنا في أحاديث أخرى، وما هي إلا دقائق حتى علا صوت الدكتور بالأبيات المنسية، ومناسبة نظمها وفيمن قيلت… ولولا شيء من التحفظ لأخبرنا ماذا كان يرتدي القائل من ملابس، وأية ملامح ارتسمت على وجه “خصمه”!
“أنا طبيب متقاعد الآن. ستون سنة من معالجة الأمراض في هذه البيئة شبه الصحراوية تكفي. ولقد فكرت بأن أنصرف إلى الكتابة، لديّ الكثير بعد لأقوله، لكنني موزع بين أنشطة عدة، ثم إنني أكتب كثيراً لبعض الصحف والمجلات في سوريا وفي لبنان وفي السعودية وفي أمكنة أخرى، وأشارك في أنشطة ثقافية متعددة، محاضراً أو منتدياً. ومع أنني لم أعد أستقبل المرضى إلا أنني كتبت وحاضرت وأكتب في أمراض المناطق شبه الصحراوية، كما أنني نجحت بمساعدة بعض المؤسسات الدولية وطلاب السنة الأخيرة في كلية الطب بدمشق في القضاء على شلل الأطفال في كل سوريا. ومنذ أعوام طويلة ليست في سوريا جميعاً حالة شلل أطفال واحدة”.
… وكنت قد عرفت الكثير عن “الرقة”، بادية وعشائر وبدواً وفلاحين وحضراً، من خلال كتابات الدكتور عبد السلام العجيلي، راوية الرقة وشاعرها ومنشدها والرباب…
كان عبد السلام العجيلي حكيماً اضاف الى علمه الجامعي معرفته العميقة بأهله وبيئته وتقاليدها القاسية، فلم يستكبر ولم يهجر مدينته ومنطقته بل عاد بعدما أكمل تخصصه ليعيش مع ناسه فيها، ينفعهم بعلمه، من دون ان يمنعه اخلاصه من اعطاء نفسه اجازات سنوية يجوب خلالها العالم، متوغلا الى الأبعد او متبعاً حنينه “الاموي” الى الاندلس، فضلا عن مدينة النور، باريس، التي عرفته قليلاً وعرفها كثيراً.
وليس مبالغة ان يقال في عبد السلام العجيلي انه أحد قلة قليلة من كتابنا العرب الذين أبدعوا في مجال القصة القصيرة… وليس ظلما للأديب المصري الراحل، يوسف ادريس، وهو الطبيب مثله، ان يُقرن به فيذكر معه بين رواد هذا الفن الجميل الذي يتناقص المبدعون فيه يوما بعد يوم.
على ان عبد السلام العجيلي بدأ غزيرا في انتاجه، وقد جرب الشعر وله ديوان يتيم، كما كتب عن مشاهداته وتجاربه كطبيب في الارياف، وكتب عن سياحاته ومغامراته مستذكرا الاسماء الصعبة للشوارع المثلجة في عواصم البرد والنهارات التي لا تغيب شموسها.
أما البادية ففي عقله وعينيه كما على سن قلمه، ولعلها الاقرب الى قلبه من بين أبطاله: يستذكرها بأمكنتها الموحشة ولياليها المقمرة وناسها غليظي الايدي والوجوه رقيقي القلوب بحيث يبكيهم الغناء.
ومع ان “الرقة” اليوم مدينة وأهلها قد غدوا حضراً، الا ان البدوي (العجيلي) في الطبيب الذي يعرف اكثر من لغة اجنبية، ظل حياً داخل صدره… وهو لم تزده ثقافته الواسعة إلا تمسكاً بهويته الاصلية على ما في الحياة معها من مشاق بل وأهوال.
انه لا ينكر اهله، ولا يستكبر عليهم بعلمه او بمعرفته الممتازة بهذه الدنيا الواسعة، بل هو يحنو عليهم، ويعاملهم برقة من يعرف الاسباب التي جعلتهم على مثل هذا الطبع الحاد والشراسة في رد الفعل على كل ما يعتقدون انه يمس بكرامتهم او بمعتقداتهم او بواقع حياتهم.
ولعل الرقة في حالها اليوم تبكي أهلها جميعاً وليس عبد السلام العجيلي وحده، وهي غارقة فيه الآن. وأهلها بين قتيل واسير ومشرد، وسد الطبقة مهدد في سلامتها وقد يفجره الدواعش فيغرقها ومعها هارون الرشيد!

*****

أنتج عبد السلام العجيلي “مكتبة” كاملة… وإن اختلف الاسلوب وطبيعة الانتاج. وله في القصة والرواية 14 مؤلفاً، وفي المنوعات وحكايا الرحلات وأحاديث العشيات تسعة كتب.
ولقد شهد له، منذ البدايات، أحد أخطر ائمة النقد الادبي مارون عبود، فقال في تقديمه لبعض كتبه “العجيلي قصصي اصيل قلت فيه منذ سنوات انه يجري ولا يُجرى معه”.
لقد حفر عبد السلام العجيلي بئراً في بادية الكتابة عن الناس المنسيين، المرميين خارج الذاكرة، فكانت له وما حولها من الارض. وهو قد نزل منزلاً في السهول الشاسعة التي يخصبها الفرات فتكاد تتعبد له، فكان الفرات حبره والسهول صفحات كتبه التي تحكي حبه للناس والارض.
ولقد كان يبحث كل يوم عن ضيوف لكي يأخذهم الى الرقة معتزاً بأنها بيته ومحبرته وقلمه وربابه وحكايته التي تمتد مما قبل البداوة الى ما بعد الحداثة دون ان تنسى اسمها وهويتها.
… وكان من حظنا ان رأيناه حيث يكتمل بدنياه ولادة الحكايات والدم والشعر وقصص الحب الذي يقهر الموت.

صحفي وكاتب لبناني | على الطريق

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *