آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ناعم » حين يحكي شهريار

حين يحكي شهريار

د. رؤى قداح  |

كلّما عبرَ شهريار قلبي تعمّدَ بالدمِ، وناحَ في حضرةِ الرّوحِ التي تزفرُ آخرَ أنفاسِ عشقها لهُ: “أنا لا أقدرُ…..”،، ورحلَ….. وشهريار في إثرِ شهريار عبروني، روحاً، عقلاً، قلباً، جسداً، علّلوني بالآمالِ الطوالِ، وصلبوني على سياجِ الانتظارِ وحدي، وفي غفلةِ التوقِ هدموا بنيانَ روحي، وعلى ذاكَ الشلوِ الأحمرِ عمّروا قصورَ حيواتهم، وزركشوها بدمي، أحمرَ، أحمرَ كدمعِ وردي الحزينِ، وما التفتوا إلى بقايا ذاتٍ كانت تحتضرُ هناكَ، فلا شيءَ يستحقُ عناءَ الالتفاتِ…

وبعثتــُـني، أنا شهرزادُ، من رمادي، وبنيتُ قلعتي، كلمةً، كلمةً، معنىً، معنىً، وقلتُ يا روحُ كوني فكانتْ، وقلتُ يا جسدُ يا زهوةَ الشبابِ والصبا انتصبْ، فانتصبَ، وقلتُ يا عقلُ يا تاجيَ، بكَ أزهو، ولك أرتّلُ صلاتي، وقلتُ يا قلبُ متْ فلا حاجةَ لي بمن كانَ سردابَ الخونةِ والعاجزين…… وبينَ غفلتي وانتباهي دهمتني عيناهُ البنيّتان المرهقتان بعمرٍ عتيقٍ عتيق، وأمامَ عرشِ صباي الزاهي انهدَّ جسدهُ الكهلُ كريحٍ مثقلٍ بتعبِ الرحيلِ، وهمسَ: “أحبيني، إنّي أنا شهريارُكِ الأخيرُ، أنا الفعلُ، وكلُّ من سبقوني محضُ كلماتٍ” …. قلتُ: “بلا قلبٍ أنا يا شهريارُ، فلا حبُّ… كنْ لي، كن غيرَ ما كانوا، كن رجلي، فربّما بُعثَ القلبُ من خرابهِ وأحبّكَ” …. قالَ: “إنّي أنا حبيبُكِ، أنا هوَ، أنا العابرُ لشلالِ الوقتِ لأحوزَكِ، عيناي عيناهُ المضيَّعتان، فارحلي في عمقهما البنّيّ ترينَكِ غافيةً هناكَ طفلةَ روحي، وأوّلَ اشتهائي الشهيّ” ……… انتبهَ العقلُ، صرخ: “يا شهرزادُ أفيقي، فأوّلُ دربِ خرابكِ كلمةٌ،، يا شهرزادُ مُريني أقطع رأسَ الحكي، فيحلّ الصمتُ ونحيا،، يا شهرزادُ أطيعيني فإنّي خلاصُكِ الوحيدُ…” ،، همستُ بلا صوتٍ: “يا عقلُ، يا ربّي، أعدْ سيفكَ إلى غمدهِ وأمهلني ليلةً واحدةً، ليلةً واحدةً، يا عقلُ، وانتظرْ صباحَ شهرياري المختلفِ، وما ذاكَ الصباحُ ببعيدٍ ….”.

في مخدعِ الحكي شهريارُ يرتّلُ على جسدي آية العشقِ، ويهدلُ لعيني: “يا روحُ، يا نورانيّةَ الحضورِ، يا ربّةَ المعاني، منذورةٌ أنتِ لي، يا حكايتي مذ كنتُ هناكَ واهيَ الوجودِ، محضَ كلمةٍ في اللوحِ المحفوظِ…”،، ينفثُ حريقَ اشتهاءٍ في أذني: “يا روحَ شهريار، يا أوّلهُ، يا آخرهُ، يا معناهُ، يا مثيلَهُ، يا ندَّهُ، يا شبيهَهُ، يا شهريارُ الصغيرُ، كوني لي، كوني اكتماليَ، بكِ، بي”….. وأنا.. أنا…. أنا من أنا؟ ضيّعتُني، غرقتُ في فتنةٍ من نارٍ وكلماتٍ، شهرزاد أنا، أم شهريارهُ الصغيرُ؟ ….. يبللُ بريقهِ البارد شامةً على عنقي، ويهمسُ لها: “يا شامةُ، يا أولَ معراجي إلى سدرةِ فنائي في الجسدِ الشهيّ، سأغفو على حوافِّ الغيابِ فيكِ يوماً كاملاً”…. أضحكُ غنجاً فيفيضُ نبعُ اشتهائي قطراً من عطشٍ، وهو ينهلُ، ويرتوي، وأعطشُ أنا… بشفتيهِ وأسنانهِ يشتتُ شملَ ورقِ الوردِ الغافي على شفتيّ.. يغرسُ أصابعَهُ الكهلةَ في شعريَ البنيّ القصيرِ، يلحسُ أطرافَهُ الشقرَ، ويهمسُ: “يا غلاميّةَ السحرِ أنا في حضرتكِ هارونُ فأطيعيني” …. وأنا، أنا، أنا من أنا؟ أكونُ لهُ ما اشتهى، وأنساني، أنا غلاميّةُ السحرِ، جاريةُ الفتنةِ، أتمايلُ على إيقاعِ جسدهِ، وأرحلُ في أصابعهِ، وأرتمي في حضنِ هاروني، شهرياري الحريق….

هناكَ، على مفرقِ الخلاصِ، على أوّلِ دربِ الإلهِ، بين قبتي الرّوحِ افترشَ ياسمينَ صدريَ سجادةَ صلاةٍ، ورتّلَ مخموراً: “حيّ على الصلاةِ، طوبى لمجدكِ الأزليّ يا نارَ الجسدِ، فاتّقدي،،، إنّي أنا الربّ، أنا خالقكِ، واهبُكِ سوطــَـكِ الأحمرَ الشهيّ، انتفاضتَكِ الأولى، فانتفضي من رمادكِ يا نارُ واكويني، رعشتَكِ الأولى فارتعشي وخذيني مني إليكِ،،، أنا بستانيُّ الروحِ، أرعى حدائقها، أقلّمُ أظافرَ الشوكِ، أرشفُ توقَ ورقِ الوردِ النديّ، أنسّقُ العشبَ الشبقَ العابثَ، وأقضمُ من فواكهها ما لذّ لي وطابَ”….. كرزٌ، كرز،،، شهريارُ يلتقمُ الكرزَ الزهريّ كرزةً كرزة فيُبعَثُ القلبُ من لحدهِ، يشرئبُ في صدري، يقرعُ طبولَ الحياةِ فيزهرُ الرمّانُ…. وأنا، أنا، أنا من أنا؟… شهريارُ طفلي العائدُ إلى قطرةِ الحياةِ الأولى، إلى لثغتها الأولى، يناغي على صدري، وأنا أمهُ…. شهريارُ عابدي ومريدي المهتدي إليّ بعدَ طولِ ضلالٍ عنّي، وأنا، أنا إلهةُ توقهِ الغافيةُ في القبة…

على تلّةِ العابدين قنتَ شهريارُ، نثرَ حبّاتِ مسبحةِ عمرهِ حبةً حبةً، وسبّحَ بحمدِ الغيابِ: “إلهتي، إلهتي، إلهتي، أوّلُ التوحيدِ أنتِ وآخرُ الاشتهاءِ”،،، وغابَ شهريارُ… وأنا، أنا، أنا المكتويةُ بيَ بهِ، أنفثُ لهيبيَ: “يا شهريارُ، قمْ، قمْ فليس نهرُ الحياةِ عنكَ ببعيدٍ…. نهرٌ من رحيقٍ يروي ضفتيّ الوجودِ، مساكبُ بنفسجٍ وقرنفلٍ ورديٍّ، وغاباتُ فتنةٍ، تتراقصُ في أفيائها سناجبُ شقرٌ عابثةٌ، وشجرٌ باسقٌ، يمدُّ ساقيهِ في جوفِ الحياةِ المديدِ،،، إنّي أنا الحياةُ،،، إنّي أنا الحياةُ أهبُكَ نهري، يا شهريارُ، قمْ”….. غرقَ شهريارُ، غرقَ، غرقَ حتى جفَّ نهري… وأنا،، أنا تهتُ فيهِ، ضعتُ فيهِ، غبتُ فيهِ عنّي، وأفقتُ راحلةً فيهِ، حرّةً من عقلي ومنّي….. وأفاقَ شهريارُ من غفلةِ عقلهِ، وارتدَّ إلى عوالمهِ، وزحفَ إلى عينيّ، وهمسَ: “إنّي راحلٌ عنكِ الآنَ، لستُ مختلفاً عن العابرين يا شهرزادُ، إنّي كغيري لا أقدرُ، ثمّة أخرى نسيتُها في مكانٍ ما من مدارجِ الوقتِ بانتظاري، فاعذريني، إنّي راحلٌ كغيري فلا تنتظريني”….

في صباحِ الكفرِ والرحيل يلعقُ شهريارُ دمي لأموتَ ويحيا… في صباح الكفرِ والرحيلِ يرتقُ شهريار فجواتِ روحهِ بنسيجِ روحي لأفنى ويُبعث بي… في صباحِ الكفرِ بي يمزقُ شهريار سجادةَ الصلاةِ، يهدمُ قبابيَ البيضَ، يخرّبُ حدائقي، يفتتُ ورقَ الوردِ، يذبحُ السناجبَ الشقرَ، يبترُ الشجرَ الباسقَ، يجتثُّ الحياةَ مني، يعبّئُ ماءَ نهري في قنّينةِ ذكرى، يرميها في جعبتهِ عابثاً، ويرحلُ…

في صباحِ الكفرِ بي يصيحُ ديكهُ على ركامِ خرابي:” حيَّ على رحيلٍ جديدٍ إلى جسدٍ آخر، توقٍ آخرَ، حرٍّ من العقلِ والرّوحِ والنّاموسِ، نقطفُ وردَهُ الطازجَ أنا وأنتَ يا مولاي، يا ربَّ شرعتي وربيبَها” …

 في صباحِ الكفرِ بي أموتُ أنا شهرزادُ، ويحيا ألفَ ليلةٍ وليلةٍ من كان قبلَ ذا الصباحِ شهرياري…

كاتبة سورية  | خاص مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *