الرئيسية » رصاص ميت » جيران العيادة

جيران العيادة

د. عبدالسلام العجيلي  |

في إحدى المجلات الطبية الأمريكية التي كنت أقرأها كان إعلان دائم يدعو الأطباء القراء إلى تسجيل الطرف التي تمر بهم في عياداتهم، أو في تعاملهم مع مرضاهم، وإرسالها إلى المجلة لقاء مكافأة مائتي دولار لكل طرفة تراها المجلة صالحة للنشر وتنشر فيها.
كنت أحدث نفسي كلما وقعت عيني على ذلك الإعلان بأني قادر على أن أجني بضعة آلاف من الدولارات لو أنني سجلت ما مر بي من طرف في عملي الطبي في السنين الطويلة التي مارسته فيها، ولا أزال أمارسه، في عيادتي الريفية وفي بلدتي النائية.
غير أن أمرين على الأقل كانا يحولان بيني وبين أن أقدم على تنفيذ ما كانت نفسي تحدثني به في هذا السبيل، أول الأمرين هو عدم وثوقي من قدرتي على التعبير بلغة إنكليزية مناسبة للحكايات التي أسجلها، إذ إسن لغتي الأجنبية التي أحسنها هي الفرنسية لا الإنكليزية، والأمر الثاني هو شكّي من أن ما أراه أنا ومن حولي وقراء العربية مستساغاً وطريفا في تلك الحكايات لن يكون له الوقع نفسه عند زملائي الأمريكيين من محرري المجلة وقرائها.
لذلك آثرت أن أوفر على نفسي كتابة الطُّرف الكثيرة التي أجدها تصلح للنشر، وأن أبثها بين الحين والحين في أحاديثي وفي مقالاتي في الدوريات وفي محاضراتي في المحافل الثقافية.
من هذه الطرف أروي هنا اثنتين تتعلقان، لا بعيادتي نفسها مباشرة بل بأطرافها، أعني بجيرانها، تعود الأولى إلى أول سني ممارستي مهنتي، منذ ما ينوف على خمسين عاما، إلى جانب عيادتي كانت، ولا زالت، تحتل البناء المجاور إدارة مصلحة التبغ الحكومية، التي تستورد ألوان أصناف التبغ من المدن الرئيسية في بلادنا وتبيعها للمواطنين عندنا بالجملة، منذ خمسين عاما لم يكن سكان منطقتنا بكثرتهم اليوم، ولا كان التدخين فاشيا فشوه اليوم، كان من صالح إدارة التبغ أن يكثر المدخنون لتكثر أرباحها، وفي ذات يوم جاءني زائرا عيادتي مدير تلك الدائرة جارتي، وبيني وبينه شيء من القرابة، وقال لي ضاحكا: يا فلان، إقناع المرضى الذين يقصدونك بأنك طبيب غير حاذق، وأشجعهم على أن يهجروك إلى الطبيب الآخر في بلدتنا ابتسمت وأنا أسمع هذه الكلمات من جاري، وقلت له: خير إن شاء الله يا خال.. ما الذي يدفعك إلى أن تفعل هذا ضدي؟ قال: يدفعني إليه ما تقوله لكل مريض يفد عليك، أو لمعظم مرضاك، مشيرا عليهم بأن يهجروا التدخين هجرا باتا إذا أرادوا الفائدة من مداواتك لهم، إذا أخذوا بنصائحك وهجر كل الناس حرق السيكارات وتدخين الأراكيل، من أين نعيش نحن يا ابن أختي؟!
لم أملك غير أن أضحك من هذا التهديد الذي وجِّه إلي، والذي لم ينفذ في الحقيقة، فلا المدير وقف عند باب عيادتي ينفر الناس من معالجتي إياهم، ولا انقطعت أنا عن نصح مرضاي بالاقلاع عن التدخين لبلوغ الشفاء أو للتوقي من أمراض خطيرة محتملة إصابتهم بها فيما يأتي من أيام.
كان ذلك منذ خمسين عاما كما اسلفت القول، واليوم، وإدارة التبغ لا تزال جارتي، لم يعد للمديرين الذين تعاقبوا بعد قريبي ذاك يرحمه الله حاجة إلى الاستزادة من المدخنين، فهؤلاء يتسابقون إلى اقتناء بضاعتهم من هذا السم الزعاف، أعني التبغ بأصنافه المتعددة، زرافات ووحدانا، ويتملكني الأسى في كل يوم وأنا أرى الشاحنات تغص بصناديق هذا السم إلى جانب عيادتي، وأرى باعة المفرق يهرعون متسارعين إلى الاستحواذ على هذه الصناديق، في أمريكا يعيب صغار الصبية في المدارس رفاقهم بقول أحدهم للآخر: أنت، أبوك يدخن!.. فالتدخين أصبح هناك عارا.. هم قرروا التخلص من هذا العار، وأحالوه إلينا، فرحنا نتسابق إلى الغطس فيه.

أما جاري الآخر الذي أروي حكايته الثانية فلم يجئني مهددا، بل جاء معتذرا عن قول نسبه إليَّ في حين اني من قوله براء، جاري هذا يملك حانوتا قريبا من العيادة يبيع فيه الفواكه والخضر الطازجة، جاءني وقال: ستضحك يا دكتور مما أرويه لك، وأرجو أن لا يخالط ضحكك استياء مني، بالأمس أتاني رجل وساومني على بطيخة حمراء يريد شراءها من دكاني، سألني عن سعر الكيلو، فقلت له إن كل كيلو بنصف ليرة، قال: لا بأس، أشتريها ولكن على المكسر، يعني بهذا أنه يشترط أن تكون ناضجة وحمراء، وأن أشقها بسكين أمامه ليتأكد من أنها كما يطلب.
راح جاري الخضري يفصل في الحوار بينه وبين ذلك المشتري، وانا لا ادري ما يقصده من ذلك التفصيل الذي لم يكن يهمني، ومع ذلك صبرت لأرى إلى أين يريد أن ينتهي من حكايته، قال: انتقي الرجل بطيخة كبيرة تزن عدة كيلوات، وبعد ان وزنتها أخذت السكين لاشقها وانا على ثقة من أنها ستكون حمراء كما طلب الشاري وكما توقعت أنا تكون فوجئت بخيبة توقعي، على المكسر كانت تلك البطيخة بيضاء اللب، أبعد ما تكون عن النضج، ماذا أفعل؟ إنها ستكون خسارة غير هينة لي، بادرت فقلت للرجل: من حسن الحظ أنها هكذا.
هذه هي البطيخة التي أبحث عنها، لن أبيعك إياها يا أخي.. سألني الرجل: تبحث عنها؟ لماذا؟ قلت له: إنها البطيخة التي يصفها جاري الطبيب الذي ترى عيادته من هنا، للمصابين بالرمال البولية، سأبيعها لمصاب بها أوصاني على مثلها، قال الرجل: أنا كذلك أشكو من الرمال في مجاري البول، أشتريها ولو لم تكن حمراء، قلت: أرجوك، سأبيعها لذلك المصاب بأغلى مما أبيعك إياها.. الكيلو بثلاثة أرباع الليرة، لا نصف ليرة فقط، قال الرجل:
ولا يهمك، أنا اشتريها بهذا السعر الذي تريده.
وأضاف جاري يقول: وبعت تلك البطيخة غير الناضجة للرجل نفسه كل كيلو بثلاثة أرباع الليرة، بعد أن كنت أتهيأ لبيعها الكيلو بنصف ليرة لو كانت حمراء مستوية النضج!
وكما توقع جاري الدكاني، ضحكت، قال هو: جئتك كي تسامحني من الكذبة البيضاء التي كذبتها عليك، حين نسبت إليك وصفة طبية لم تصفها أنت، ألا تسامحني؟ ضحكت أنا مرة أخرى وقلت له: لا عليك، حلال على الشطر كما يقولون، وأنت كما يبدو من أشطر الشاطرين. هذه الحكاية والتي قبلها بعض ما كان ممكنا أن أرسله لتلك المجلة التي تحدثت عنها في أول الكلام، ولم أفعل، ولست آسف على أني لم أفعل، لأن روايتها على أصحابي وقرائي تكفيني وترضيني.

القصة السورية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *