آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » أبعد من الحياة
لوحة للفنان الفلسطيني رائد القطناني

أبعد من الحياة

أقول لك مقسماً أنني لا أعرف السبب وراء ترددي وتكرار ذهابي، ربما هي رتابة الحياة، بؤسها، شقاؤها، أو مجرد حق الجيرة، هي التي كانت تأخذني لبيت الحاج عمران وزوجته الحاجة مريم، أو إلى “المضافة” كما يسميها سكان المخيم، فيسأل بعضهم بعضاً:

ـ أذاهب إلى الديوان اليوم؟

لم يقصد أيهم الإساءة لاسمح الله، بل كله من باب الدعابة والفكاهة التي ميزت سكان مخيمنا. كنت أُكثر من التردد، ليس لإضاعة الوقت طبعاً، فمقهى المخيم أوسع بكثير وأكثر رحابة، بل أظنني كنت أذهب طرباً لسماع كلماتهما في الحياة وعنها. الحكمة يمتلكها بعض الناس كهولاً، لتجد نفسك أمام كنز ثمين لمّا يفتحا خزائن أسراره، وتصير الجواهر تتناثر من شفتيهما حتى تملأ البيت كله. ولك أن تغرف منها ما طاب لك دون مساءلة أو حساب، فتجدني وقد جلست فاتحاً فمي مُرخياً أذنيّ للملمة كل ما يتناثر من أفواههما.

رغم أنهما لم يصلا يوماً لصحاري المملكة ولم يغرقا في جهنم صيفها، بل لم يعبرا أكثر من نهر الأردن طوال حياتهما، أصر الناس على إلباسهما ثوب الحج. ربما لتوالي تدحرج السنوات فوق كتفيهما دون توقف، أو من باب احترام الكبير الذي تعودنا عليه، وربما لأشياء أخرى لا أعرفها.

الحاج عمران وزوجته، وإن كانت لا تخرج القبيحة من فم أي منهما، لأي شأن أو إنسان، فقد كانت تخرج القبيحة والأقبح منها، منهما معاً عندما يتعلق الأمر بحكام العرب، وأقبح القبائح عندما يأتي الأمر على القيادة الفلسطينية. كان طبيعياً جداً أن تسمع بعض الكلمات النابية التي لا تروق للمسحجين والواقفين مادّين أعناقهم بانتظار مخالي العلف، والذين إمتنعوا بمحض إرادتهم عن التردد على البيت ـ المضافة أو الديوان، خوفاً من أن تحوم فوق رؤوسهم شبهات المعارضة، فيصبحوا على زياراتهم نادمين. لمّا سألته ذات يوم عن سر غضبه هذا على “معشر” الزعامات، رغم الهدوء الذي يغمره فيما تبقى من شئون، قال:

ـ لا مجال للمهادنة يابني في مستقبل الأوطان.

قالت هي، بالأمس بالذات، عندما رأت الرئيس، يبعث بباقات الورد الحزين لهم، من على صفحة تلفازهما القديم، ودموع الأسى تنهال من تحت جفونه شلالاً. تنزلق الكلمات الغاضبة من خلف أسنانه على المنفذين، مواسياً حكومتهم معتذراً لها عن عملية الأمس الفدائية، واصفاً الشبان الذين حاولوا من خلالها إعادة الأمور إلى طبيعتها قبل أن يصعدوا نحو السماء، بالإرهابيين، دون أن يرف له جفن:

ـ “يا شايف الزول يا خايب الرجا”، يبقى النذل نذلاً، هؤلاء حسموا أمرهم، و”ذيل الكلب لن يعتدل حتى لو وضعته بألف قالب”.

بالنسبة لي، ما قالاه الإثنان كله سياسة، ومهما تعددت الأسباب واختلفت التسميات تظل السياسة خادعة خطرة ملعونة، تسقي الذل وتجلب المعضلات وتذهب بالحياة. أنا بطبعي أحب الحياة وأقبل عليها مثل النحلة على رحيق زهرة، بقدر كرهي للسياسة والسياسيين. ازداد هذا الكره بعدما استقرت رصاصة في رأس أخي صالح أثناء مشاركته في إحدى المظاهرات، فدثّرناه بالعلم وحملناه على الأكتاف وأهلنا التراب فوق شبابه اليافع، وغيّب السجن أخي حسن منذ سنتين ولسنين طويلة قادمة. الأهم كوني رأيت بأم عيني كيف أحضرت قيادتنا معها الموبقات كلها منذ قدومها، على حين غرة، فوق أجنحة “أوسلو”، ودلقتها مياهاً قذرة فوق البلد والناس. فحولت الوطن إلى مبغى بإشرافها وتحت قيادتها، وجعلت من البلاد إقطاعيات لها تُباع وتُشترى تحت ذرائع ومسميات شتّى. صارت الوطنية لباس ذئب لمهاجمة كل معترض، وتغيَّر اتجاه مجرى نهر الدم إلى جيوبهم مالاً، فصارت الأرض تُهرّب “لليهود” من خلال جماعتهم الموزعين في كل الأماكن الحساسة، بما فيها بعض رجالات الدين عرباً وأجانب، أو عبر القادة أنفسهم الذين يستبدلون الأراضي من أ إلى ب إلى ج، أو من خلال سماسرة أو عملاء يتبوأون أعلى المراكز ضمن صفقة اتفاق بينهم وبين السلطة. كلمّا فتّحت عيني أكثر رأيت كيف يتساقط بعض من كانوا مناضلين كأوراق الخريف في سراديب التنسيق الأمني، ويصيروا عبيداً لمعاشات المحتل وعلف الصحراء، أو لفتاوى شيوخ القهر والجهل والتحريم على حساب الناس والوطن. لذلك ربما وجدتني أنتشي عندما أسمعهما يقذفان الحكام والسلطة بأشد العبارات قبحاً. لما كانت الحاجة مريم تراني فارغ الفيه منتشياً، كانت تستل لسانها السليط وتتوجه نحوي مقتربة من أذني قائلة:

ـ إعمل شيئاً ينتفع به الناس بدلاً من فتح فمك “على الغارب” هكذا؟

يكمل هو متحدثاً بالعام ودون تخصيص:

ـ الله لم يخلق الفم “لزلط” الطعام فقط، وإلا لكنا مثل باقي البهائم، لسانك يابن آدم حصانك، “إن صنته صانك، وإن خنته خانك”. صُنْه عن جلد الناس، واجلد به ما استطعت مَنْ يستحق الجلد. لكن لا تُبقه نائماً في فمك منبطحاً مستسلماً مقهوراً صامتاً، ممنوعاً من قول كلمة الحق خوفاً و جبناً أو طمعاً، فالحياة واحدة والرب واحد، و”لن يخلع الرأس إلا مَنْ ركّبه”.

سكت قليلاً قبل أن يكمل ما بدأه:

ـ إن خفت أن يخذلك لسانك ويظل متقاعساً عن جلد مَنْ يستحق الجلد، إقتلعه وارمه بعيداً، فذلك أشرف بكثير.

لما كنت أغمز من وضعهما بكلمتين وبسمة هازئة من فمي معلقاً:

ـ ماذا عليَّ فعله ياحاج عمران؟ ثم أعمل لماذا؟ ألا ترى كيف يبيع البعض الأوطان والبعض الآخر يبيع مناضليه ويتركهم لمصيرهم؟ ألست مثالاً أمامنا؟

كان يرد عليَّ مدافعاً قائلاً رغم كل الذي أصابه:

ـ لكن من تقصدهم لم يبيعوا وطناً، هم ليسوا ملائكة على أي حال.

كنت أرد وكأنني في جدال عليّ إثبات وجهة نظري من خلاله:

ـ ربما لم يبيعوا الوطن لأنهم لم يمتلكوا حرية التصرف فيه كالآخرين؟

قال حينئذٍ وقد قطّب جبينه غاضباً:

ـ ربما لدى الجميع أخطاء، لكن لا تُفلسف عجزك وتبرر قعودك باتهام الناس، فليس الجميع مثل هذه السلطة العاجزة البائسة، والمأثور الشعبي يقول “إن خلَتْ بلَتْ”، ولن تَخْلو قضيتنا أبداً من المدافعين عنها والذائدين عن حياضها أفراداً وأحزاباً وجماعات. إنّ نهر الدم لن يتوقف عن سقايتها، رغم كل محاولاتهم لتحويل مجراه، وهؤلاء “طلعوا أو نزلوا” يبقون أفراداً سيبصق عليهم الشعب ويغيّبهم التاريخ في مزابله، سواء من باع القضية أو باع الشعب أو تخلّى عن المناضلين، لكن لن يتم ذلك بغير العمل الجاد الدؤوب المتواصل، من الجميع، أتفهمني؟ الجميع ما أمكن ذلك.

كنت أعرف أنه رجل مُكابر، وأنه لن يعترف بمرارة تاريخه أمام شاب مثلي، ولا كيف رموه خارجهم دون وجه حق، وكيف ظل سنوات يعتاش على كرت وكالة الغوث، بعد أن كان عاجزاً عن العمل بسبب بطاقته الخضراء. يستغني مجبراً عن بعض تموينه فيبيعه ليشتري بعض حاجات أخرى. مرة يبيع الأرز ومرة جزءاً من الطحين وثالثة بعضاً من الزيت ليشتري مكانها مادتي الشاي والزعتر، التي كانت أهم مقومات بقائهما. صار يتردد عليه أصدقاؤه من المخيم، وبعض أفراد عائلته، حاملين معهم بعض الضروريات، حالّين بذلك، لبعض الوقت، أزمته تلك. ظل الأمر كذلك حتى وجد له بعض الأصدقاء عملاً في توزيع القهوة والشاي على العاملين في مكتب لوكالة الغوث.

ظل الحاج عمران صلب الرأس كصخر جبل النار في تلك الظروف بالذات، ولم يتنازل قيد أُنملة عن أيّما فكرة أو رأي طالما يتعلق الأمر بالمبادئ. لطالما تذكر سنوات السجن وتمناها في ظروفه تلك، وكم رافق الجوع معتصراً معدته كي تتوقف عن الصراخ. رغم ذلك ظل تفكيره منصباً على الحاجة مريم، زوجته، التي لا تشكو ولا تنبس ببنت شفة، كي لا تزيد بؤسه بؤساً وحزنه غضباً وكفراً، معتبراً نفسه السبب في بؤس حياتها، وأنه هو نفسه العذاب الذي يأكلها وتحاول جاهدة إخفاء آلامه.

قيل أن الحاجّين عاشا قصة حب نادرة، حب إلى درجة الهوس أو الجنون وفقدان البوصلة، الأمر الذي عارضه الحاج ونفاه، وأسماه حباً طبيعياً غير منقوص، حب إتجاه بوصلته واضحة لا لبس فيها ولا عَمَيان بصر أو بصيرة. بل ظل يؤكد أن لا حب دون وضوح الرؤى، وأن الحب ،كباقي الأشياء في هذه الحياة، لا يبقى على حاله، لأن في جموده الموت. بل يكبر ويتمدد ويتفرع، ليغطي الأرض والسحب وأركان السماء، فيزهر ويورق ويبرعم، ويلد الورد والعطر والقمح والربيع والحياة. تسقيه أنهر الأرض وينابيع السماء، فيسمو ويكبر ويزهر ويثمر عشقاً، ونحن لسنا أكثر من اثنين من العشاق لا أكثر ولا أقل.

كما أنهما لم يُرزقا بأطفال طوال حياتهما، وقيل أن الحاج عمران رفض الزواج بغيرها أو “تسريحها بإحسان”، بل رفض حتى نقاش الأمر خارج نطاقهما وحدهما. أكثر من ذلك، قال بعض أترابه، أنه ادّعى أن “العيب فيه هو وليس فيها”، ليحميها من كلام الفضوليين، وليوقف تكرار جَلْدها بألسنتهم الحادة. لقد وضع نفسه لقمة سائغة جاهزة لهم، ليلوكوا لحمه ويمضغوه طويلاً، ورغم ذلك، فهو يحمد الله ويشكره على تحملها له، فأي امرأة ترتضي الحياة مع زوج دون أطفال كما ظل يردد؟. الجميع كان يعتقد غير ذلك، ولمّا تقوَّل البعض أن الحياة دون أطفال ليست سوى صحراء جرداء قاحلة خالية من المطر والشجر، أكد هو الموضوع ولم ينفه، وقال:

ـ هذا صحيح، هل تعتقدون أنني لم أنجب؟ هل هناك بيت واحد في كل المخيم يعج بالحياة مثل بيتي؟ ومن كل الأجيال أيضاً.

وهكذا كان، لم يخل بيته يوماً من الناس، بل كان يتفوق على عدد وافدي مسجد المخيم في الكثير من الأحيان، وإن كان الناس بعد الانتهاء من الصلاة سرعان ما يغادرونه، لكنهم كانوا يستصعبون مغادرة بيت الحاج عمران، فيبقون ويسهرون ويتسامرون ويتحاورون ويشتمون السلطة والحكومات حتى آخر الليل. حتى أن المقهى الوحيد في المخيم كان يغلق أبوابه قبل أن تنطفئ فوانيس بيته. الأمرالأكثر غرابه أنه لم يشكُ يوماً، بل كأن الأمر يبدو على قلبه “أحلى من العسل”، ويشعرك دوماً أنه متأسف على مغادرتك.

ظلّا كل منهما سنداً للآخر، مترافقان في المنزل والسوق والطريق، لا يكاد أن يرى الرائي أحدهما دون الآخر، إلا في سنوات سجنه قبل أعوام طوال، حين لم تنقطع عن زياراته أبداً. لم يمنعها مرض أو حر صيف أو برد شتاء، إلا حين كان الإحتلال يجبرها على الغياب ويمنعها بشتى الأعذار، أو يتأخر باص الصليب الأحمر عن الحضور، حين لم تكن تملك أجرة الطريق، فتجدها مشغولة القلب حائرة، تفرك أصابع يديها كأنها قد فقدت عزيزاً. تظل حتى يحين موعد الزيارة القادمة، فتجد أساريرها تنفرج، تعود الحياة لمحياها من جديد. في كل زيارة كانت تسند والديه، ولا تنسى أدويتهما ورغيفي خبز وبعض المياه لتسدّ بها رمقهما، وتطرد هجومات العطش المتكررة على العجوزين طوال ساعات النهار.

لم يخجل الحاج يوماً من مساعدتها في أمور البيت، من طبخ وكنس وتنظيف، وفي الوقت الذي عاب عليه الكثيرون، صاروا يرون الأمر عادياً جداً بعد ذلك. صرن نسوة المخيم يشرن له بالبنان كمثال لرجل حقيقي، وقمن بثورات في بيوتهن، فصار الكثير من الرجال يتبعوا خطواته وإن كانوا في البداية مُجبرين، فأقل كلمة كانت تخرج من أفواههن لبعولهن عندما يتذرعون بأن هذا ليس عملاً لرجال، كن يسألْنهم قائلات ثائرات:

ـ وهل أنتم أكثر رجولة من الحاج عمران؟

وأحياناً يستعملن كلماته رصاصات في وجوههم:

ـ ليس من الرجولة بشيء أن تترك زوجتك تقوم بشئون البيت وأنت جالس، مثل شوال، تتفرج على تعبها. إنه استغلال مقيت وليس رجولة.

بماذا سأخبرك بعد؟ أرى أن الموضوع استثار فضولك، على أية حال سأقول لك كل ما أتذكره عن هذين الزوجين، فأنا وحدي لن أستطيع الإحاطة بهما، وصدقني لو قلت لك أن المخيم كله غير قادر على ذلك.

يقول بعض أترابه أنهما تعارفا من “خلال لجان العمل التطوعي” الذي كانا من مؤسسيه في السبعينات. بمحض الصدفة تشاركا في جَدِّ نفس شجرة الزيتون لأحد الفلاحين الفقراء. تقابلت عيونهما في منتصف الطريق لمّا نظر كل منهما ليرى زميله، فتوقفت عن رؤية أي شيء آخر للحظات، وساد الجمود والسكون كل شيء محيط، وتوقفت الأرض عن الدوران، وتوقف الجسدان في مكانهما دون حراك. حالة من التجمد اللحظي سكنتهما فأصبحا صنمين في هيئة بشر، وعلا ضجيج قلبيهما حتى كاد أن يكشف أمرهما، كأنهما صنمان بقلوب عامرة حية. عادت الأرض إلى حركتها، وتفلّت شيء من بين شفتيها، وبعد جهد وطول محاولة ولدت ابتسامتها. إبتسامة أمام نهر من الدم كان قد تجمد في عروقه، فحركت النهر وفاض على وجهه وكساه بحمرة الخجل مثل فتاة. عادت لجسده الحياة، وظلت ابتسامتها معلقة مجمدة فوق وجهها، قبل أن تبتلعها وتخفي ملامحها، لكنها كانت دون أن تدري قد شجعته على الكلام. همس بشيء من صدره، وحياها بحركة من رأسه، تلقفتها وردت التحية بمثلها في ذات اللحظة، وتابعت أيديهما الحركة والعمل، وظللت خجلهما شجرة الزيتون، ووفرت لهما غطاء من العيون المتلصصة. عادت النظرات بجرأة أكبر، وتمادت وتكررت وتشابكت وتعانقت وصار من الصعب عودتها إلى مكانها، ولا حتى فك نسيج خيوطها. سرعان ما صارا ينتظران يوم الجمعة ليتراءيا في عمل تطوعي جديد، عبثاً كانت تحاول إخفاء ارتباك جسدها، أو حتى لملمة انتفاضته. مرات شعرت أن قلبها ينتفض متفلتاً لمغادرة الجسد، تكاد أن تفشل في تهدئته وإرجاعه الى مكانه. صارا يقرآن لتكون لمشاركتهما معنى في الحوارات الثقافية المعقودة على هامش العمل، وربما ليُري كل منهما الآخر أن الرأس الذي بين كتفيه ليس فارغاً، وأن لديه ما يقوله ويختزنه. في يوم ما بعد سنة، أخبرها بمكنون قلبه الذي كانت تعرفه، لكنها شعرت بسعادة رغم ذلك. صارا يتقابلان في المكتبة العامة، يقرآن ويتناقشان مع الآخرين، ويسترقان بعض ساعات للتمشي في الشوارع اليقظة، والتي لم تخبر أحداً عن أسرارهما شيئاً. لم يكونا قد أدركا بعد أن العمل التطوعي يمكن أن يُحرض دورية الجيش ومخابراته عليه ويرشدهم إلى بيته، إلا عندما رأى تلك الدورية أو مشابهة لها تقرع بعنف باب منزله، ولن ينسى الحاج عمران ماذا قال له ضابط التحقيق حينئذٍ:

ـ مَنْ لديه الإستعداد لخدمة الناس والمجتمع تطوعاً في الكنس والمسح وجدّ الزيتون، بالتأكيد سيجد لنفسه متسعاً لعمل أشياء أخرى لخدمتهم، أكثر خطورة وبالكثير من السريّة.

حاكموه سنتين أو ثلاث، لا أعرف بالضبط، الأمر الذي عمّق في صدره إيماناً لم يكن بهذا القدر من قبل، ولما خرج لم يفكر بالجلوس جانباً، كأنه يحث الخطى على الرجوع إلى السجن، وقد قال لمن حذره من مخاطر ما يقوم به:

ـ ما دام لا طريق للعودة إلا عبر الرجوع للسجن، فليكن، وهذا أضعف الإيمان.

منهم مَن فهم ومنهم مَنْ لم يفهم مقصده، لكنه رجع محكوماً بسنوات طوال، مات أبواه دون أن يراهما، وكانت هي الحاجة مريم من قامت بواجب دفنهما كما قامت بواجب رعايتهما في حياتهما، وتابعت مهنة التطريز لتعتاش في سنوات غيابه.

مرت على كل ذلك سنوات وسنوات، وصار المخيم يظل يجتمع في بيتهما، وكان نتاج عملهما يقدمانه سعداء للمخيم وأهله، ولم يعرف أحد لماذا تخلّى عنه أقرب رفاقه إليه، حتى هو نفسه لم يعرف ذلك. بعض المخيم يقسم أن الموضوع موضوع مصالح، وأنه كان ضد أوسلو وجماعتها وبعضهم دخلوه بأرجلهم بطرق وأساليب مختلفة. وظفوا معارضتهم في خدمة مصالحهم، وأكد هذا البعض، أن المصالح عندما تتعارض لا يبقى للعلاقات الرفاقية والإنسانية مكان، وتُخان المبادئ وتُنكّس راية الأوطان لتحقيق مصالح الذات وشئونها.

لا أعرف لماذا أثرثر لك بكل ذلك، ولا أعرف لماذا لا يتوقف لساني عن الحديث، وها أنا لم أُجبك بعد كل هذه الثرثرة على مبتغاك، كيف حصل ذلك؟

أظن أنني لم أخبرك بعد أنني والكثيرين بقينا ساهرين في بيتهما لوقت متأخر من مساء يوم أمس، بل داهمنا الفجر قبل أن نخجل من إطالتنا المكوث وننسحب إلى بيوتنا، وكيف كانا، الحاج وزوجته، في قمة سعادتهما. لأول مرة أرى كيف تكون السعادة نبعاً من الصدق ينساب كالعرق من مسامات الجسد، وكيف يكون الوفاء بحراً من مشاعر صادقة، ويتدفق الحب نهراً من ماءٍ زلالٍ باردٍ في يوم قائظ. كيف يمكن أن تكون الكلمات نسائم طائرة تمر على الأجساد لتمحو بيدها عرقها وجحيم ريحها الخماسيني، وكيف تكون الزغرودة تعبيراً عن كل هذه المشاعر مجتمعة، عندما أطلقتها الحاجة مريم محتفلة بالعملية الفدائية الأخيرة. كيف يمكن لكهل أن يعود مراهقاً في لحظات، يُزجل ويدبك ويغني الميجنا، ويوزع بنفسه الشاي والعصائر وحتى السجائر التي اشتراها بآخر ما يملك من بقايا نقود، وعندما يجلس على كرسيه ليرتاح يقول:

ـ الآن، لو جاء “عزرائيل” سأستقبله بالترحاب غير آسف.

سمِعَتْ زوجتي همسها دون أن تبتلع ابتسامتها:

ـ لا قدّر الله، “الشر بره وبعيد”.

على غير عادتهما، تراءى لي عجوزان ثرثاران يتعاملان كثملين أحمقين، يحتفلان كشابين مراهقين بعملية فدائية. إعتقدت أنه نوع من فقدان التوازن، أو ربما خفة الكهول عندما يفقد العقل وزنه وتطغى عليه العاطفة بكل جبروتها.لكني أحجمت عندما رأيت الجميع مثلهم، يكادوا يموتون فرحاً وكأن هذه الفلسطين كلها ملك خالص لهم، وأنهم استعادوها أو على وشك، ببحرها ونهرها وأرضها وبحيراتها. كأن مرج ابن عامر يعيد الاصطفافات على مداخل حيفا، وعكا تسنّ مدافعها ويرتفع بنيان سورها شامخاً متأهبة لقتال، والكرمل اعتلى نفسه ليراقب آفاق السماء البعيد حراسة لهم، والشعب استعاد نفسه وامتشق الحجارة، وأن رجالات التنسيق الأمني و”أبطاله” لفظتهم مدينة رام الله خارج الحدود، وغزة جهزت صواريخها “العبثية” لتكون في حالة استعدادها القصوى، وجنود المقاومة المرابطة في شمال الوطن قد اعتلت مناطق الجليل.

كنت أرقب الجميع كيف يحملون أفراح قلوبهم وينشرونها ابتسامات وضحكات وأفراحاً وغناء، ولَجَمَتْ أفكاري زغاريد زوجتي التي كانت تُكمل ما ابتدأته الحاجة مريم وتضيف عليه أحياناً، زيادة في احتفائها بالأبطال الذين اعتلوا السماوات شهداء. لأول مرة أشعر أنني أخاف النظر في عيني زوجتي كي لا تقرأ أفكار رأسي وتكشف أمري، فرأيتني حذراً من كشف سرّي وسط هذا البحر من الفرح والغبطة. أتستطيع أن تدرك مدى شعوري وأنا أخاف فرحتهم أو أخشاها أو أتجنبها؟!!! أتستطيع تصور جبني وضحالتي وأنا أخ شهيد وأخ أسير؟ أتتخيل أني ما كنت أعرف حتى يوم أمس بالذات قيمة أن تكون أخاً لشهيد؟!!!. لم أكن أعلم أن هذا الجهل يساوي الكفر بالله وربما يتفوق عليه، وتراءى لي أن الله يغفر الذنوب كلها إلاّ جهلك بقيمتك كأخٍ لشهيد. لم أكن أعلم أن الذي جرى سيعيد شيئاً من الرجولة المفقودة لي، أو سيعيدني إلى رشدي من جديد، وسيثبت لي أن ما يحويه قلبي لزوجتي وأطفالي ليس حباً ولم يكن كذلك يوماً، فالحب لا ينقسم ولا يختبئ ولا يجبن. إن شعوري بامتلاء قلبي لم يكن حباً حقيقياً كما كنت أظن، بل خوفاً مختبئاً وجبناً منزوياً داخل أعضائي هرباً من الحب. يا الله كم كانت الأمور ملتبسة! كيف كنت قادراً على الوقوف محايداً أمام دماء أخي الشهيد؟ كيف أمكنني التعامل مع زيارة أخي الأسير كأمر عادي متفرجاً على آلامه من خلف القضبان مثل غريب؟ هل كنت بحاجة لهذا البركان ليهزني ويعيدني إلى حقيقة ما يجري؟ هل كان بالضرورة حصول ماحصل لأصحو من غبائي وأصحح مسيرتي؟ أكان فعلاً الضباب بهذه الكثافة ليحجب الطريق؟أم أنه الخوف من الشوك والأسلاك الشائكة والبنادق المصوبة على كل عابر لتلك الطريق؟!

في الصباح، حضرتُ وزوجتي بعد أن رجتني الحاجة مريم باستدعاء الطبيب، قالت أن الحاج عمران متوعك أو مغمىً عليه، وصارت تشرح لي الأمر وكأنني كنت غائباً وغير موجود، وقالت:

ـ إنه لم يستيقظ من نومه منذ فجر اليوم، بعد أن سهر كعادته لوقت متأخر، وأنه تحدث كما لم يتحدث من قبل، وضحك كما لم يفعل منذ سنين. بعد أن خرج الجميع، امتدح حسني وجمالي، تغزل بقوامي كأنه يراني بعيون الأمس، ضمني ووضع رأسه فوق صدري وغفا. غفا بعمق كما لم يغفُ منذ سنوات، لم يتحرك طوال الليل، وأنا غفوت بدوري، واستيقظت وانسللت من جانبه كي أبقيه نائماً ليرتاح، لكنه كان قد توقف عن تجرّع الأنفاس، فأرجوك يابني أن تذهب خلف طبيب المخيم ليفحصه.

وهكذا كان، أحضرت الطبيب، وتفحصه، وكانت ابتسامة الأمس ما تزال معلقة فوق شفتيه، تخاله يعيش ذات اللحظات، ولولا تأكيد الطبيب لما ظننت أنه قد غادرنا إلى جوار ربه. رأيت بضع دمعات تنساب على خديها عندما سمعت الطبيب يترحم عليه، ودمعتان عبرتا إخدودين محفورين مع امتداد كيس الدمع على طرف العين، سالت على جانبي خديّها إلى أسفل الأنف، إخدودان بفعل السنوات وشظى العيش والزمن، وبكل هدوء ولطف همست لزوجتي مشيرة إليّ:

ـ دعيه يرتاح على صدرك، مسِّدي على رأسه، زوجك إنسان طيب وإن ضل الطريق قليلاً أو تاه على مشارفها، اصبري عليه سيعود إلى رشده.

وخاطبت الجميع بصوت عالٍ ووجهت كلماتها لي:

ـ اسمحوا لي يابني للإختلاء به نصف ساعة فقط، أتسمعني نصف ساعة ثم تدخلون.

خرجتُ وزوجتي والطبيب وبعض الجيران، وأخذنا نخبر بعضنا بعضاً بوفاة الحاج عمران، وتكاثر الناس على بابه مندهشين، منهم من دعا له بالرحمة ومنهم من قرأ الفاتحة على روحه الطاهرة، ومنعت بنفسي أيهم من الدخول لكسر خلوة الحاجة مريم مع زوجها. انقضت نصف الساعة، وتبعتها نصف ساعة أخرى، وأمسكت بطرف النصف الثالثة قبل أن تغادر كاملة. طرقتُ الباب، طرقت مجدداً، ولمّا لم يجب أحد فتحت الباب بهدوء ودخلنا، وكلهم رأوا ما رأيت. كانت الحاجة مريم ممددة بجانبه، يداها ممددتان عل طولهما، وجهها في مقابل وجهه، بثوبها القديم الذي طرّزته بيدها منذ سنوات، وشاشتها البيضاء الجديدة التي كانت مختبئة لهذا اليوم خصيصاً. على وجهها ابتسامة استعصت على الولادة لكن بالإمكان تشخيصها بوضوح، ودمعتان اثنتان كانتا ماتزالان واقفتين في مجريي وجهها بعد. ظننتها نائمة أو فاقدة الوعي حزناً، همست في أذنها لتستيقظ، فمن العار أن تنام بهذا العمق وزوجها للتو قد اختار طريق السماء، ثم هززت ذراعها وسحبتها منه، لكنها بقيت كما هي عليه، حاولت أن أسقي وجهها جرعة ماء لتستيقظ، لكن زوجتي أمرتني بإحضار الطبيب من جديد، الذي أكد مخاوفنا جميعاً. أكد أن قلبها الصغير قد توقف عن الخفقان، مصرة على اللحاق به عبر طرقات السماء لئلا تتركه وحيداً هناك، وربما لتدله على طريق الجنة.

كان وجهها صافياً هادئاً وأكثر شباباً، تكاد ترى الدم ما زال يجري في عروقه، يسرح ويمرح مختالاُ في أزقة جسدها وطرقاته المتفرعة، لا يردعه رادع ولا يقف في وجهه عائق، فأخذ يُعيد لها الصبا والشباب، وأنها حية ولا علامة للموت فيه.

مهما كثرت ظنونك لن تظنه الموت، لأول مرة أرى في الموت كل هذه الحياة، بل شاهدت بأم عيني كيف يكون في نفس الموت حياة غير ما نعرفها من حياة. هذا الموت الذي نعرفه، لم يكن الموت الذي نجزعه ونخافه ونحاول الهروب أو الإختفاء من جبروته، وأكثر من ذلك أننا لسنا كلنا نستطيع أمر الموت الهادئ بالحضور، مَن منا يستطيع ذلك؟ من يستطيع أن يأمره فيستجيب صاغراً آتياً دون ضجيج، يقف أمامها منتظراً سماع أوامرها، يلبسها مُطيعاً ويتركها حية في ذات اللحظة!!! كانت قد اقتطفت حزمة من الوقت لتخط لنا بضع كلمات، وصيتها التي تنتظر من يقوم بتنفيذها، كلمات مسترخية أو غافية نائمة في بطن ورقة بيضاء واقفة على باب تلفازهما القديم:

ـ إدفنونا، هكذا كما نحن، بجانب بعضنا بعضاً، فهناك شيء أبعد من الحياة.

ما كنت أعلم، حتى تلك اللحظات، أن هذا التفاني وهذا الصفاء، هذه الطهارة وهذا الإخلاص والنقاء، هي ما تُثمر الأوطان، ما يجعل لها معنى، ما يجعلها أكبر من المال وعصية على الكسر والتفريط. أدركت حينها فقط أن الحب ليس بالضبط الذي يتراءى لنا أحياناً، وأن ما نعرفه ربما يكون خادعاً مُزيفاً، وبعضه سراباً في صحراء ممتدة في الأفق كله. جزمت مع نفسي أن ما أراه شيئاً أعمق من الحب وأكثر شموخاً من العشق، وأن هناك فعلاً ما هو أبعد من الحياة… وربما أجمل.

  مجلة قلم رصاص الثقافية

عن محمد النجار

محمد النجار
محمد النجار: كاتب فلسطيني من مواليد قطاع غزة عام 1956 لأبوين فلسطينيين لجأوا إليها بعد عام 1948. درس معظم المرحلة الابتدائية هناك، انتقل بعد عام 1967 إلى مخيم الأمعري بقرب مدينة رام الله حيث أنهى المرحلتين الإعدادية والثانوية. درس الهندسة الالكترونية في الجامعات الرومانية وبعد تخرجه عاد إلى رام الله. اعتقل من قبل الاحتلال عام 82 وعامي 84-85 وعام 87 وعام 91 ثم عامي 94-95 بسبب نشاطاته، بعدها غادر الأرض المحتلة. صدر للكاتب تحت اسم عادل عمر، مناضل في الظل (مجموعة قصصية)، 1986، أعيد طبعها سنة 1991. الظافرون بالعار (رواية)، 1989، أعيد طبعها مرتين سنة 1990 و1991. بانتظار الظلام (مجموعة قصصية)، 1991. رحلة في شعاب الجمجمة (رواية)، 1992. الإثم والقديس، (رواية)، دار كنانة ـ دمشق، 2019 وهي الرواية الأولى التي تصدر باسمه الحقيقي، مسعدة (رواية)، عشاق من زمن غابر (رواية)، ثلاثية فرسان الحلم (رواية).

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *