آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » المطر، والريح، والليل…!
الفنانة التشكيلية سوسن البواب
الفنانة التشكيلية سوسن البواب

المطر، والريح، والليل…!

الشوارع خاليةٌ من المارة، يدثرها المطر والريح والليل. وثمة طفلٌ وحيدٌ، يسير حافي القدمين، أسماله المبلّلة تلتصق بجسده النّحيل، وفي ذاكرته تتوهّج امرأةٌ لها رائحة الدّفء، وطعم الحنان، يبتسم الطّفل، فتضحك امرأةُ الذاكرة، يزداد توهّجها، تندفع كشلّالٍ من الضّوء يغمر، فيختفي الشارع  والأشجار وأعمدة الإنارة، ولا يبقى إلا الطّفل والمرأة، فتغنّي له، تهدل مثل حمامةٍ، يدور  حول نفسه، يقفز، يرقص، ويشعُّ الفرح من عينيه… تلطمه موجةُ ماءٍ تطلقها عجلات سيّارةٍ مسرعةٍ، فتنطفئُ المرأة، تختفي، تتلاشى، لكنّه يشعر بأنفاسها حوله، يسمع غناءها، رنين ضحكتها…

يركض الطفل..

يطلق عينيه في كل الاتجاهات لا شيء يتحرّك، أبوابٌ مغلقةٌ، نوافذٌ موصدةٌ، وريحٌ تعوي وتضرب الشوارع والأشجار وجدران البنايات وأعمدة الإنارة، والمطر يصفع وجهه، يستسلم للتعب، فيتوقف سانداً ظهره إلى عمود إنارةٍ، ينزلق حتى يجلس مقرفصاً، ينظر إلى أوراق الأشجار المتلألئة كقطع الفضة، تطفح عيناه بالدّموع، فتشتعل المرأة في ذاكرته مرةً أخرى، تشعُّ مثل نجمةٍ بعيدة، يكتشف مكانها، يدسّ يده في رأسه، و بحركةٍ خاطفةٍ ينتزع  ذاكرته، يفردها على الرّصيف أمامه، يفتشُ بين صورها، تحمل الريح بعض الصور، وتبعثرها بعيداً…زوجة أبيه القاسية، بائع الخبز البخيل، حارس الحديقة الفظ… لا يأبه، ويتابع بحثه حتى يجد صورة المرأة، فيبتسم لها، تضحك امرأة الصّورة، وتنهض كدوحةٍ وارفةٍ… يطوّقها الطّفل بذراعيه، يدفن رأسه في صدر المرأة بقوّةٍ كأنّما يريد أن ينفذ داخلها، فتحتضنه…

_أنت ترتجف…!

_ أنا خائفٌ، يا أمي..!

_ لابأس، أنا هنا..!

تهدهدُ المرأة الطفلَ، تمسح على رأسه، وتغنّي له، بينما الطّفل يزداد تشبّثاً بها…! ينفجر البرق والرّعد، فترتجف المرأة، وتغرق عيناها في الفزع، يحكم الطّفل يديه حول عنقها، يشعر بريح الفقد تحاصره، وتنهبه مرّةً أخرى، يرفع عينيه، يحدّق بوجه المرأة،  فينداح الذّعر في دمه، وقد دهمته صورتها في تلك  اللّيلةً الصيفية، كانت تنطفئ على فراشها، منهكةً من المرض و الدّواء، فقدت شعر رأسها، انطبقت وجنتاها، الموت يستبيح وجهها الشّاحب، وهو عاجزٌ أمام عينيها الخائفتين، ذرفت المرأة كلمةً أو كلمتين، ضغطت يده بوهنٍ، ثم ارتعشت، اختلجت، وبعدها غادر ضوء الصّباح عينيها، فارتمى عليها كالمجنون ، احتضنها، قبّلها لعلّها تستيقظ كأميرة الحكاية المسحورة، لكنها ظلّت هامدةً دون حراكٍ، وعيناها مطفأتان، هزّت صرخته جدران الغرفة، ثم أجهش بالبكاء ..!

يجلجل الرّعدُ

يعقب برقاً يضيء وجه المدينة

تصير المرأة فراشةً من نور، تطير من بين يدي الطفل، تبتعدُ مرتفعةً رويداً رويداً،  ينهض الطفل، يطاردها، يقفز، يحاول إمساكها، تلمس أنامله جناح الفراشة، فينفجرُ ضياءٌ مبهرٌ في عينيه، بوقٌ يلطم سمعه، زعيقُ مكابحٍ يجرح وجه الشارع الخالي إلا من أضواء سيارةٍ تفرّ مبتعدةً، وجسد طفلٍ يتوسّد الإسفلت، و يكفّنه المطر والريح والليل..!

 مجلة قلم رصاص الثقافية

عن د. فراس محمد الحسين

د. فراس محمد الحسين
طبيب أسنان سوري، مواليد مدينة الرقة 1982، يهوى كتابة القصة القصيرة والقصيرة جداً، نشر في عدد من المجلات والمواقع الإلكترونية، وحاز على عدد من الجوائز الأدبية من اتحاد الكتاب العرب في سوريا، آخرها المركز الثاني في مسابقة القصة القصيرة للأدباء الشباب.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *