الرئيسية » رصاص خشن » أنا وليلى والذئب…!

أنا وليلى والذئب…!

مغتبطاً، مبتهجاً، متنكّباً الأمل، مشيتُ نحو المكتبة، تدثرني مشاعري الجميلة، فمحمد ابني البكر الذي منحته اسم والدي صار في الصف  الأول، وأريدُ شراء دفاتر وأقلامٍ له،  كانت المكتبة تغصّ بالأطفال، وكان هناك امرأةٌ تمسك ابنها من يده بحرصٍ شديدٍ، صاحبُ المكتبة مشغولٌ بتلبية طلبات الصغار، فوقفتُ منتظراً دوري في طابور الأطفال… متفحّصاً رفوف المكتبة، ارتمت عيني على كتيبٍ صغيرٍ، استأذنت صاحب المكتبة، أومأ برأسه موافقاً، فمددت يدي، وأخذت الكتيب… رُسِمَ على غلافه الخارجي فتاةٌ صغيرةٌ واقفةٌ بين الأشجار والزهور، ترتدي وشاحاً أحمر، حاملةً سلّةً فاض منها ما لذ وطاب، تطير حولها بضع فراشاتٍ ملونةٍ، وانتصب ذئبٌ أسود وراء إحدى الأشجار، متلصصاً على الفتاة… أردت تصفح الكتيب، لكنه سقط من يدي، نظرت إلى مكان سقوطه على الأرض، فدهمني دوارٌ غريب كأني أنظر إلى هوةٍ سحيقةٍ، انحنيت لالتقاطه، وحين نهضتُ معتدلاً، اجتاحتني صدمةٌ كبيرةٌ…     

” أين أنا… ؟”

اختفت المكتبة وصاحبها، والأم وابنها، والأطفال، وتسوّرتني الأشجار من كلّ الجهات…!

“هل أنا في الغابة…؟ هل دخلت إلى الحكاية…؟ كيف حدث ذلك…؟”

كانت الغابة مختلفةً، مصفرّةً، موحشةً، ارتفعت أشجارها عالياً، وتشابكت أغصانها الكثيفة حتى منعت أشعة الشّمس من النفاذ،  تغزوها الشجيرات الشوكية بكثرةٍ، تصفّر الريح فيها بما يشبه عزيف الأشباح، وتعبق رائحة الخوف في أرجائها…  متمعناً بالمكان، جلتُ بنظري، فرأيتُ إشارةً سهميةً، خشبيةً، متآكلةً يغطيها الغبار وبعض الطّين الجاف، ماسحاً الإشارةَ بيدي، هربت بعضُ العناكب والحشرات، كانت تُشيرُ إلى اتجاهِ منزلِ الجدّة، سرتُ على الدرب، قافزاً بينَ الحفرِ أرنباً حذراً، و منحنياً بجسدي دودةً صغيرةً  للمرور من تحت    الأغصان، أو متجنباً الصّخور المتدحرجة من التلّة… ورغم ذلك كاد يُلوى كاحلي في إحدى الحُفرِ، وتعثّرت غيّر مرّة  بالصخور، وشجّ جبيني غصنٌ سقط من إحدى الأشجار، ونابني الكثير من الأشواك…!

بعد وقتٍ طويلٍ شعرته دهراً، وصلت منزل الجدة، واكتشفت أنّه لم يكن بعيداً، كان المنزل مدمراً، جزءٌ من سقفه منهار، جدرانه متداعية تتسلّقها الطحالب واللبلاب … لا أبواب أو نوافذ، لم أرَ كرسي الجدّة الهزّاز، ولا سريرها، ولا تلفازها، ولا ثلاجتها، ولا صندوق مجوهراتها المشغول من الصّدف، ولا سراج الزّيت البرونزي وحتى الأرضية المصنوعة من خشب الأبنوس كانت مقتلعة… وباختصارٍ كان يشبه ما جاء في قصة الخلق البابلية” توهو بوهو” أي “خربة خالية” !

درتُ حول المنزل، ووجدت في الجهة الخلفية قبراً أحجاره مبعثرةٌ، وشاهدته مكسورةٌ ومتّسخةٌ، أعدت الأحجار إلى وضعها الصحيح، ونظّفت الشاهدة، فتبيّنت أنه قبر الجدة، قرأت الفاتحة على روحها، ثم ذهبت إلى البئر، لأحضر ماءً أسقي به تربتها…!

في طريقي إلى البئر، بحثت عن دلّوٍ أنقل به الماء، ولم أجد غيّر صفيحةٍ معدنية صدئة، عدّلتها قليلاً، وحين وصلت البئر، تفاجئت بوجوده، يجلس واضعاً رجلاً على رجل، شابكاً أصابعه وراء رأسه، مستنداً إلى جدار البئر… خفت وأردت التراجع، لكن شجاعةً غريبةً دبّت في قدميّ، فتقدمت نحوه، وبادرته مسرعاً: هل أنت الذئب… ؟

ناظراً نحوي بعينين مستغربتين:  ما رأيك… ماذا ترى… ؟

قلتُ بنبرةٍ جادّةٍ:  – لعلّك خروفٌ متنكّرٌ بزيّ ذئب… ألم تتنكّر الأفعى بهيئة امرأةٍ حسناء… ؟ وأغوت البطل، فأضاع كلّ شيءٍ… !

ردّ:  جرت  العادة أن يتنكّر الشّر بثوب الخير، ليخدع الآخرين… !

فقلت: ربما، إلّا أن الواقع يثبِت أن العكس منطقيٌّ أيضاً؛ فالحملان ارتدت هيئة الذئاب… وأعرف أرنباً يغيّر إهابه حسب الطقس، مرّةً ثعلب، وأخرى ذئبٌ أو ضبعٌ؛ وذات يومٍ أخذ صورة نسرٍ أمرد العنق؛ مشاركاً الغربان في أكل جيفةٍ… !

ابتسم قائلاً:  هذا حرباءٌ، وليس أرنباً…!

قلتُ حازماً: بل أرنبٌ، إلا أن فن التنكّر صار سمّة العصر، وأجاده البعض حتى بت أتسائل  مَنْ تعلّم من الآخر…؟ نحن أم الحرباء…!

فقال :  حسناً، أنا الذئب… مَنْ أنت… ؟

لم أعرف بماذا أجيبه، هل أقولُ له أنّي غريبٌ من عالمٍ آخر من زمنٍ غير زمنه… ؟هل أشرحُ له كيف دخلتُ الحكاية… ؟هل سيصدقني… ؟أنقذني من الإجابة و انشطار الأسئلةِ في رأسي، صوتُ طلقٍ ناريٍ… فسألت الذئب:

– هل هذا الصياد… ؟

فأجاب بهدوءٍ ودون أن يُغيرَ جلسته: ومَنْ غيره… ؟

سألته: لماذا لم تَهرب…؟

ضاحكاً، مقهقهاً،  متكوّراً على نفسه، وضع يديه على بطنه كأنّي قلت له طرفةً، ثم   قال: يبدو أنك غريبٌ…انظر من حولك ،لم أَعُد الخطرَ الأكبرَ والوحيد في غابةٍ  تعج بالوحوش والضواري…!

قلت:  لم أرَ غيرك…!

متنهداً:  انظر نحو صف الأشجار عن يمينك، أو يسارك…!

التفتُ يميناً، ممعناً النظر، رأيت العيون الحمراء، والصفراء المتلصصة، المتحفّزة تترصدني، وانتابتني قشعريرة الخوف…!

 مبتسماً تابع الذئب: لا تخف، لن تهاجمك الآن، فمنطقة منزل الجدة والطريق إليها، منطقةٌ محرمٌ الصيد فيها، لكن عليك الحذر من الصياد، فلا مناطق محرّمة على صيده…!

مستعيداً جزءاً من شجاعتي، سألته:   الصياد…! لماذا…؟

ردّ:  لأنه منذ فقد إحدى عينيه، وأصيب بداء باركنسون، لم يعد قادراً على التصويب بشكلٍ جيدٍ، رغم استعماله بارودةً حديثةً، لست أدري من أين حصل عليها… ؟ ربما نحن معشر الوحوش قتلنا نصف سكان الغابة، لكنه تكفّل بالباقي…!

ناضحاً بالدهشة قلت : ماذا تقصد… ؟

أجاب: قتلَ الغزالةَ حين كان يحاول إصابتي، وأردى الأرنب عندما أراد اصطياد الثعلب، وسقطت آخر الحمامات في محاولته اصطياد نسرٍ أسود أمرد العنق، يتغذى على الجيف.. !

ثمَ أَردفَ الذئبُ قائلاً على عجلٍ: لقد جاءت تلك العجوز الشمطاء،  يجب أن أرحلَ…!

سألته:  هل تقصدُ ذات الوشاحِ الأحمر… ؟

مستهزئاً قال: لم تَعدْ تضعُ وشاحاً أحمر بل أسود، واستبدلت الطعامَ في سلتها بالحجارة، تَسيرُ مستعينةً بعكازِ جدتها، تُحضِرُ معها مقصاً وإبرةً وخيطاً.

مستهجناً: هل تخافُ منها، ولا تَخافُ من الصياد… ؟

تبسّم الذئب، وقال: سأشرح لك، منذُ وفاةِ جدتها، تأتي إلى الغابة، تُحضِرُ الصياد معها، تَبحثُ عني، تُريدُ شقَ بطني لإخراجِ جدتها، فما زالت تَعتقِدُ أنّي أكلتها، لم تُصدق أنَ جدتها ماتت، رغم أنها دفنتها بنفسها، وما يُثيرُ غضبي أكثر ، ذلك الصيادُ الأحمق الذي يُجاريها في لعبتها، لقد ساعدها في دفن الجدة…!

رحلَ الذئبُ مُبتعداً، ووصلت ليلى يُرافقها الصياد الذي وَجَّهَ بندقيته نحوي بيدين مرتعشتين…  رفعت ليلى المقص، ملوّحةً به أمام وجهي، وقالت بصوتٍ متهدّجٍ:

 – هل أنت الذئب..؟

 متراجعاً رويداً رويداً، أجبتُ بالنفي، خوفاً من رعشةِ أصابعِ الصياد، فهزةٌ غير محسوبة أو مقصودة لإصبعه على الزناد، ستُرديني صريعاً، وإذا متُ في الحكاية، سأضيعُ للأبد… ضاع والدي يوماً في الحكاية، وحين عاد ترك روحه هناك…!

متعثراً بحجرٍ أو شجيرةٍ صغيرةٍ، سقطتُ شاعراً بألمٍ شديدٍ، تأوهتُ فاتحاً عينيَّ، كانَ صاحبُ المكتبةِ يَرشُ الماءَ على وجهي، والمرأة تطلب منه الاتصال بالإسعاف؛ وابنها ينظر بعينين مرعوبتين؛ يتشبّث بثوبها، و وجوه الأطفال شاحبةٌ، مصفرةٌ… !

ساعدني صاحبُ المكتبة، أجلسني على الكرسي، أحضرَ كأس ماءٍ،  وبضع مناديل  لأمسح الدم عن جبيني، و أعطاني ضمادةً للجرح، سألني إن كنت أُريدُ شيئاً، فشكرته وقلت له أنّي بخير… ارتحت برهةً قصيرةً، اشتريت القصة، والأقلام والدفاتر، وعدت إلى منزلي ممتطياً سعادتي بأن  الحكاية مازالت كما أعرفها، ليلى تضع وشاحها الأحمر، حاملةً سلّتها، محاطة ً بالورود، والذئب يتختل بين الأشجار الخضراء، يراقبها، والجدة ومنزلها على حالهما، والصياد شابٌ قوي البنية ثاقب النظر…!

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن د. فراس محمد الحسين

د. فراس محمد الحسين
طبيب أسنان سوري، مواليد مدينة الرقة 1982، يهوى كتابة القصة القصيرة والقصيرة جداً، نشر في عدد من المجلات والمواقع الإلكترونية، وحاز على عدد من الجوائز الأدبية من اتحاد الكتاب العرب في سوريا، آخرها المركز الثاني في مسابقة القصة القصيرة للأدباء الشباب.

شاهد أيضاً

حنا عبود .. بيت الكون الأمين

لا يهم هذه الشهادة العرفانية الانتماء إلى فضاء المتنبي وممدوحيه، كما أنها ليست كافية من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *