آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » “طهمازية” الجحيم!

“طهمازية” الجحيم!

مات، ولنقل: نفق أو فطس، مراعاةً للدقة اللغوية فقط، ذاك أن الكلمات لن تغيّر وضع طهماز، وهو لن يشعر بالسوء، فقد صار جثةً هامدةً، يحوم الذباب حولها، وسيأكلها الدود..!

قبل أسبوع، جرى طهماز مذعوراً، مرتبكاً، اختبئ خلف شجرة الكينا الكبيرة، وراح يراقب سيارات الزيل العسكرية، التي راحت تتقيأ حمولتها من الجنود، والسلاح، والعتاد، ثم رحلت كما جاءت بضجيجٍ يصم الآذان، واختفت في عاصفةٍ غباريةٍ أثارتها عجلاتها على دروب القرية الترابية، قرية خالية، مهجورة، غادرها قاطنوها على عجلٍ، حتى أن بعضهم لم يكمل طعامه الذي باشره، تركوا منازلهم بأثاثها، وتساقطت ذكرياتهم على الطرقات، وبينما قرعت القنابل والصواريخ طبول الدمار والموت، نقش الرصاص على جدران المنازل كلماتٍ لا تقرأ، بل ترى واضحةً كشمس الظهيرة ” مرت الحرب من هنا..!”

انتشر الجنود في كل الاتجاهات، يبحثون عن أي شيء وكل شيء، وكالجراد تماماً لن يتركوا خلفهم شيئاً؛ حين يرحلون..، تحركوا في مجموعات، انتقلوا من منزل إلى آخر، ومن شارع إلى شارع، ثم عثروا على طهماز عند شجرة الكينا، كان يقف بلا حراك، لا يعرف ماذا يفعل؟ أو أين يذهب؟

فاقتاده الجنود معهم، وراحوا يتناوبون امتطاءه مقهقهين، ضابط برتبة ملازم اقترح إلباس طهماز بنطال عسكري، فردّ أحد الجنود بأنهم يمكن أن يضعوا على أكتافه نجمة أيضاً.. وهكذا تم تجنيد طهماز، لتبدأ رحلة شقاءه، فراح يعمل لا كالجنود، ولا كالعمال، ولا كالآلات، بل أسوأ من ذلك، ليلاً ونهاراً، دون توقّف، كان ينقل أكياس الرمل للتحصينات، والطعام لتوزيعه على الجنود، ثم يجلب الماء من النهر، وينقل الجنود إلى مواقع حراستهم، ليعود برفاقهم الذين أنهوا نوبة الحراسة، ولا يكاد يتلكأ في أي مهمةٍ حتى تنهمر الضربات عليه بلا هوادة، تساقطت الضربات على  أردافه، أقدامه، ظهره، بطنه، ووجهه، حتى ذكره لم يسلم، و كثيراً ما أصاب الجنود نوبة سعار فيضربونه بأي شيءٍ يقع في أيديهم، سياط، عصي، حجارة، لكن أكثر ما آلمه كان هراوةً قصيرةً بلاستيكية خضراء اللون..!

في الليلة السادسة، انهار طهماز، لم تعد أقدامه قادرة على حمله، فسقط أرضاً، الألم يسري في كل جسده، الجندي  الذي كان يمتطيه، ضربه عدة مراتٍ، ولأنه كان نعساً تركه وسط الدرب، ولاحقاً جرّه الجنود من أقدامه الخلفية وذيله، وألقوه في حفرة خارج القرية..!

الثالثة بعد منتصف الليل، رقد طهماز وسط الدرب، عاجز عن الحركة، أنفاسه ثقيلة، بطيئة كأنما يشحذها من بخيل، القمر محاقٌ، رائحة العشب الندي داعبت أنف طهماز، وذكّرته بجنته المفقودة، انسلت دمعة ندمٍ متأخرة من عينيه، وتذكر كلمات رفيقته البومة الحكيمة يوم وصل الجنود..

_ أيها الأحمق، ماذا تنتظر، هيا لنرحل..!

_  لكن إلى أين.. ؟

_ لا يهم، مادام النمرود حاكماً، فالخرائب كثيرة..!

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن د. فراس محمد الحسين

د. فراس محمد الحسين
طبيب أسنان سوري، مواليد مدينة الرقة 1982، يهوى كتابة القصة القصيرة والقصيرة جداً، نشر في عدد من المجلات والمواقع الإلكترونية، وحاز على عدد من الجوائز الأدبية من اتحاد الكتاب العرب في سوريا، آخرها المركز الثاني في مسابقة القصة القصيرة للأدباء الشباب.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *