لم يأتِ الصباح، أو لعلّ الليل لم يرحل بعد، إذ لا يزال الجدال قائمًا حتى اليوم، مصطدمًا بستارة سوداء، ثقيلة، مظلمة، كأنها ستارة مسرح تعطّلت الأجهزة التي ترفعها، فرفضت السماح للممثلين بالظهور على الخشبة، رغم أن التشبيه غير دقيق تمامًا، فقد استيقظ بعض الناس بفعل ساعاتهم البيولوجية، وآخرون على أصوات منبّهات ساعاتهم أو هواتفهم.
لم يكن ثمّة حديث سوى عن العتمة التي تأبى الانقشاع، في الدوائر الرسمية، وعلى طاولات المقاهي، وفي الشوارع.
الحكومة، وعلى لسان متحدّثها الرسمي، وعبر التلفاز والصحف، أعلنت تشكيل لجنة وزارية لدراسة الملابسات، ولاحقاً ستتوالد منها لجان أخرى…
لم تفعل اللجنة شيئًا سوى حلّ مسألة الدوام في الدوائر والمدارس والجامعات، وذلك عبر اعتماد تقسيم اليوم إلى ساعات عمل وساعات راحة، شاكرين لعقارب الساعات استمرارها في الدوران.
“جمعية نهار سعيد” و”حركة الشمس المشرقة” طالبتا أنصارهما بالتظاهر ضدّ الليل، “أبي الجرائم”، بل حثّتا الحكومة على اتخاذ إجراءات رادعة بحقه، ليس أقلّها اعتقاله وتقديمه للمحاكمة، وإلا فإن الجرائم ستتكاثر، فالقتلة والمغتصبون واللصوص سيستغلون الظلام لتنفيذ جرائمهم والهرب من الملاحقة القانونية.
ردّت “جمعية عشّاق الليل” ببيان معاكس، رأت فيه أن اتهام الليل بأنه “أبو الجرائم” هو تعدٍّ وظلم، إذ إن نظرة سريعة إلى التاريخ تُظهر أن الجرائم الكبرى حدثت في وضح النهار وتحت أشعة الشمس، وليس لنا إلا أن نتذكّر يوشع بن نون الذي دعا بأن تتباطأ الشمس ليطول النهار كي يُبيد أعداءه، وكانت نتيجة المعركة بالأرقام مثيرة للفزع، أما ما يحدث منذ بداية الألفية، من هدم المدن على رؤوس ساكنيها، وتطهير عرقي، ومجازر متنقلة، والاتجار بالبشر… فكلّها تحدث في النهار، وأمام كاميرات الإعلام، ومرتكبوها يضربون عرض الحائط بكل القوانين، سواء كانت إلهية أم بشرية، كما أن الجدل البيزنطي حول من تمرّد: الليل أم الصباح، لم يُحسم بعد.
المؤمنون من مختلف الملل والنحل اتفقوا – الأمر نادر الحدوث – أن هذه هي النهاية: نهاية الحياة، نهاية الكون، يوم القيامة، أو يوم الدينونة، ولهذا لا جدوى من البحث عن الأسباب، ولا أهمية لتحديد المسؤول، سواء كان الصباح أم الليل، فـ”كلٌّ في فلك يسبحون”، وليس أمام الناس إلا الصلاة والدعاء علّهم يكونون من الفرقة الناجية.
الفلاحون أول من بدأ بالنواح والشكوى، ونقلوا مخاوفهم عبر رئيس رابطة الفلاحين إلى رئيس الحكومة:
_ لم أفهم… أين المشكلة؟
_ سيدي الرئيس، دون الصباح، لا شمس، ودون الشمس لا تنضج الثمار، ودون ثمار لا حصاد.
_ هذا يعني…
_ هذا يعني الكارثة، الانهيار، المجاعة! طبعًا لا أتكلم عن اليوم أو هذا الشهر، إنما عن المستقبل المخيف.
_ لا تقلق، سنشكّل لجنة برئاستك لمتابعة المسألة واقتراح الحلول.
كالعادة، كان رئيس البلاد، الزعيم، القائد، آخر من يعلم، فقد استيقظ متأخرًا وظن أنه قضى النهار نائمًا وأفاق ليلًا.
بعد ذلك بساعات، أطلّ على شعبه بخطاب عبر التلفاز، أعلن خلاله أن ما يحدث هو مؤامرة لن يسكت عنها، وسيطارد أعداء البلاد في الداخل والخارج، ولن يهنأ له بال حتى يُعيد الصباح!
…أنت، لا تستغرب… نعم، أنت أيها القارئ، ألا تصدّق أن ذلك حدث؟
حسنًا، سايرني قليلًا… انظر حولك…
أمعن النظر مجددًا…
الآن، هل أنت متأكد أنك خارج العتمة؟
مجلة قلم رصاص الثقافية