الرئيسية » رصاص خشن » غوستاف فلوبير عن بطلة روايته مدام بوفاري: “هي أنا”

غوستاف فلوبير عن بطلة روايته مدام بوفاري: “هي أنا”

رواية ” مدام بوفاري ” من تأليف غوستاف فلوبير، وهي تتحدَث عن زوجة ريفية تخون زوجها مع عدد من العشاق، اسم الزوجة ” إيما ” أو مدام بوفاري، والرواية كتبها شاب مجهول عام 1857، فيها من دقَة الملاحظات وطريقة السرد وبلاغة اللهجة التي من المستحيل الصمود أمام قوَة تأثيرها، كان عمر فلوبير ثمان وعشرين سنة حينما بدأت فكرة الرواية تجول في خاطره، ولم يكن قد نشر شيئاَ حتى ذلك الحين، وقد اهتمَ في البداية بجمع المعلومات، فدرس المكان، وخلق الشخصيات، وعمد إلى وضع التصاميم حسب ما جمعه من مواد، وكانت قرية “ايونفيل” هي مسرح الرواية، وقد أصبحت، فيما بعد، محجاَ للزوار، وهناك ترى بيت الطبيب، والكنيسة، والأسواق والصيدلية والفندق، والمقبرة التي دفنت فيها مدام بوفاري.

الشخوص الذين استعار فلوبير معظم صفاتهم وملامحهم من الواقع: من شهود مأساة عائلة بوفاري، هناك خادمة وقد روت كيف انتحرت سيدتها الجميلة: ” لم تكن تريد أن تبوح بنوع السمِ الذي تجرعته، الجميع كانوا يبكون حولها، حينئذ جاءت ابنتها الصغيرة تبتهل إليها، فقالت الحقيقة، أخيراَ .. آه! لقد كانت المأساة الواقعية أكثر تعاسة مما في الرواية”. كتب فلوبير يقول: ” ليس لرواية مدام بوفاري أي انموذج حقيقي، إنَها اختراع محض، وكذلك كلَ الشخصيات في الرواية”.          

حين كان فلوبير يكتب روايته، كان ينسى نفسه، من هنا جاء قوله: ” إنَ مدام بوفاري هي أنا ” إنَها ترفض الحياة كما هي، وتريدها كما يصفها الشعراء، وتعتقد بالحب الخالد، وتعيش في قصور خيالية، وهذه الحاجة إلى الانفلات، والخيال، كانت كلُ رومانسية فلوبير ذاته، ولكن إن كانت (إيما) قد سقطت لاصطدامها بالواقع، فإنَه أنقذ ذاته بجعله من هذا الواقع مادة لفنه.

ثمَ إنَ مدام بوفاري ليست الشخصية الوحيدة التي تقمصها، وقد أكد مشابهته للشخصيتين: (بوفار و بيكوشيه) الغبيين، فقد كان مجذوباَ للبلاهة البشرية، وقد كتب، يقول: ” لقد ملأ بوفار وبيكوشيه مخيلتي حتى أصبحت كأني واحد منهما، إنَ غباوتهما هي غباوتي كما كنت أحلم ” ويمكننا الاقتناع بأنه كان أيضاَ كلَ شخصياته يمثلها هو. وهذه الحالة كانت تمثل له خللاَ عضوياَ مقلقاَ، كانت الفكرة عندما تحتلُ فكره تشلُ جسده ” كنت معهم وهم يمتطون خيولهم، أعرق معهم وأعطش معهم، وكنت حينما أكتب عن هياج الأعصاب كانت أعصابي ذاتها تتهيج، فأصيح وأحتد، حينئذ كنت أنهض وأفتح النافذة كي أريح أعصابي “. وحين وصل إلى وصف موت بطلته (إيما) أخذ يشعر في جسده بمثل الأوجاع التي يصفها: ” لقد كان طعم السم في حلقي، وكنت كأني مسمَم ذاتي، حتى أنني بليت مرتين بعسر الهضم، جعلني أتقيأ أحشائي”.

حين يغوص الروائي في فنِه يصبح رجلاَ لا يعرف كيف يعيش حياته، بل حياة أثره الفني، فيرد ذلك إلى العناد الجامح بجميع حوادث يومه، فإن سمع في السوق نكتة أعجبته فإنَه يحتفظ بها لأحد شخوصه، وإن هو ذاق نوعاَ جديداَ من الطعام، فكَر” في وضعه على مائدة العشاء المزمع أن يصفها ” وإن أعجب بغروب الشمس، دفعه ذلك لكي يستخدم هذا المشهد في فصل لاحق، وهذا الانحراف المهني كان يسيطر على ذهن فلوبير كلَ السيطرة “إني أرجو أن أرى دموع الآخرين تنهمر بعد اخضاعها لكيمياء الفن” لقد كان مسعداَ لأن يضحي بكلِ شيء في سبيل خلق أثر فني يدوم.

لقد دخل روايته كما يدخل المتعبد صومعته، فكأنَ حياته الشخصية توقَفت لكي تفسح المجال أمام حياة شخوصه، كان يردَد ” لا حياة للجملة إلا حين تستجيب إلى ضرورات جسدية، فأنا لا أعرف جودتها إلا بعد أن أقرأها بصوت عال “.

هل يوجد موضوع أكثر ابتذالاَ من موضوع هذه المرأة الشابة البعيدة الخيال، التي تتزوَج من طبيب قروي لا مواهب لديه، ولا شخصية، فتذوب مللاَ في زاويتها الريفية، وتحاول التلهي في أرجاء مخيلتها، وفي ازدواج شخصيتها، وفي الخيانة الزوجية، وفي الهوى الجامح، فتغوص في مستنقع الدعارة، ثمَ تصطدم بخيبة أمل الحبُ والانهيار الاقتصادي وترتمي في أحضان اليأس، إنَ هذه الحوادث قد عالجها فلوبير بجدية وموضوعية مدهشتين بالنسبة إلى عصره.

تنتهي الرواية بهزيمة (إيما) العاشقة فتموت بوصمة عار، وبانتصار هوميه الأبله فينال وسام الشرف، ويعاقب فلوبير بطلته لأنها رفضت واجبات الحياة الوضيعة، لقد جعلها ضحية وابتذال الذين حولها، صحيح أنَه تجنَب الانحياز لكنه لم يستطع إلا أن يبدي شفقته على المرة الشابة، واحتقاره للذين كانوا سبب هلاكها.

اكتسبت مدام بوفاري أصدقاء كثر في باريس، بينما كان فلوبير يشعر بأنَه وحيد غير مفهوم ومثبط العزيمة، ثمَ أخذت شهرته تتعاظم وظهر روائيون يريدون أن يكونوا نظيره واصفي الوقائع، وقد أيقظت هذه الحركة الجديدة الرأي العام حول شيخ الرواية، وتهافت ألوف القراء على مطالعة مدام بوفاري، وأصبح فلوبير هو أحد أكبر كتاب الأدب الفرنسي، ومدام بوفاري الخالدة هي الكمال لصورة امرأة، لقد كتب ثلاث روايات تعتبر من أفضل الروايات التي كتبت في هذا القرن.

توفي فلوبير سنة 1880 ولا يزال النقاد يواصلون المناقشة والجدال حول آثاره، لقد اجتازت (إيما) الحدود، إنها تتكلَم الآن جميع اللغات، تتألم وتموت تحت كلِ سماء، وجميع سيدات العالم يتعرَفن على صورتهن فيها، وقد تبنَت السينما هذه المغامرة، وتعاقبت الأفلام، وتنازعت نجوم دولية شرف إعارة شخصهن للريفية الصغيرة ابنة قرية ايونفيل.

إنَ النقاد اليوم يعجبون كثيراَ بالمسودات وبرؤوس الأقلام، ويظنَون أنَ من الانحطاط الاهتمام بإكمال اللوحة الأدبية، لذلك يبدو فلوبير باعتنائه المرهق وبوجدانه المهني نافراَ في عصر الالهام الصوتي، وهذا المفهوم أجبر عدداَ من كتاب الرواية، الذين يكتبون بسرعة كي يطالعها القراء بسرعة وينسوها بسرعة، إنَ سبب الإعجاب بمدام بوفاري ناجم عن كمالها الفائق الوصف، وهي تترك في نفس من يطالعها انطباع يبقى كلَ العمر.

المراجع:

اَـــ مدام بوفاري: غوستاف فلوبير، رواية.َ

ـــ عويدات للنشر. عام .1962

ـــ عدد الصفحات: 415

2ـــ غوستاف فلوبير، دراسة، دار عويدات للنشر، عام 1964.

عدد الصفحات: 280 صفحة.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن رصد ومتابعات

رصد ومتابعات

شاهد أيضاً

مركزية المرأة في الدائرة الإنسانية والوجود في الجزء الثاني من ديوان” راعي الذود”

في الجزء الثاني من غنائية الشاعر اليمني المبدع رفيق الرضي، المُنتقاة لها عتبة” راعي الذود”، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *