الرئيسية » رصاصة الرحمة » التهمة: أنثى!

التهمة: أنثى!

في العالم العربي، تولد المرأة وسط جدران لا تراها، لكنها تشعر بها منذ اللحظة الأولى؛ جدران مصنوعة من صوت الأب حين يقول “هذي بنت”، ومن نظرة الأم حين تسكت خوفًا من المجتمع، ومن همسة الجارة التي تردد: “البنت عيبها ما ينسكت عنه”. هذه الجدران لا تنهار مع الوقت، بل تكبر، وتضيق، وتُدهن كل يوم بلون جديد من الخوف والحياء الزائف.
منذ الطفولة، يُقال لها: اجلسي بأدب، لا ترفعي صوتك، لا تلعبي مثل الأولاد، لا تضحكي بصوت عالٍ، لا تناقشي الكبار، لا تحلمي كثيرًا؛ يُزرع داخلها ألف “لا” قبل أن تتعلم “نعم”، تُمنع من أن تكون فضولية، جريئة، أو حتى صادقة، لأنها أنثى، والأنثى — كما يقال — إذا خرجت عن النص، صارت حديث الناس.
وحين تكبر، تخرج من بيت أبيها إلى قفص آخر، يُسمّى “بيت الزوج”، لكنه في كثير من الحالات مجرد انتقال من وصاية إلى وصاية، من رجل يفرض سلطته باسم الأبوّة، إلى رجل آخر يفرضها باسم الرجولة. تُطالب المرأة بالصبر، حتى لو كانت تُهان، وتُضرب، وتُخدع؛ يُقال لها: “البيت ما ينهد على أول مشكلة”، وكأنها وحدها المطالَبة بالثبات، بينما هو حرّ في جبروته، معفيّ من كل مساءلة.
ثم تأتي الحياة العامة، فتُقابلها بسؤال معلّق في الهواء: من سمح لكِ أن تكوني هنا؟ في السياسة تُعدّ دخيلة، في العمل تُراقَب، في الإعلام تُحاصَر بشكلها لا بفكرها، وإن تفوقت، طُعن في أخلاقها؛ إذ في المخيال الجمعي ما زالت المرأة الصالحة هي التي لا تُرى، ولا تُسمع، ولا تُناقش. وكل امرأة قوية، واضحة، تطالب بحقها، تصبح فورًا موضع اتهام: إمّا فاجرة، أو ناشزة، أو غربية الفكر، أو مريبة السلوك.
ويحدث — في تناقضٍ سريالي — أن تُحمّل المرأة مسؤولية أخطاء من يضطهدها؛ فإذا تحرّش بها أحدهم، سُئلت عن لباسها، لا عن جريمته. وإذا اغتُصبت، خاف أهلها من الفضيحة أكثر من الجاني. وإذا أرادت الطلاق من زوجٍ يؤذيها، طُلب منها أن “تستر عليه”، وكأن الظلم إذا أُخفي، غفره الله، أو زال أثره.
إن اضطهاد المرأة في العالم العربي ليس فقط سلسلة من الأفعال الفردية، بل هو منظومة مترابطة، تمتد من البيت إلى المسجد، من المدرسة إلى القانون، من الشاشة إلى الأغنية، من المثل الشعبي إلى نظرة المارّة. والعدالة لن تتحقق إلا عندما نتوقف عن القول “المرأة نصف المجتمع” كعبارة شعرية، ونبدأ بالتعامل معها فعليًا كنصف حقيقي، حيّ، مساهم، مستقل.

في العالم العربي، المرأة لا تُعامل كإنسان، بل كوصمة قابلة للانفجار، ككائن مشبوه يحتاج إلى رقيب، كعارٍ مؤجل ينتظر أن يتنفس ليُدان. منذ ولادتها، يُنظر إليها على أنها عبء بوجهٍ بريء، مشروع مصيبة إن لم تُضبط، مادة خام للقلق، هدف مفتوح لأي سلاح جاهل يُغلف قسوته بالدين، ويغمسها بتبريرات الشرف، وكأن وجودها في ذاته خطر يجب التحكم به قبل أن يتحول إلى “فضيحة”.

الاضطهاد هنا ليس حادثة، بل نظام حياة. المرأة لا تُضرب في بعض البيوت، بل تُربّى على أن تتحمّل الضرب، لا تُقصى من بعض الوظائف، بل يُسخر المجتمع بأكمله لمنعها من الوصول، لا تُغتصب فقط، بل يُطلب منها أن تصمت حفاظًا على سمعة المجرم الذي غالبًا ما يكون أخًا أو قريبًا أو “ابن ناس”، لأن كسر امرأة أهون على المجتمع من كشف رجل تافه.

القانون؟ غالبًا أخرس أو أعمى أو منحاز. قوانين الأحوال الشخصية في كثير من الدول تُعامل المرأة كقاصر أبدية، تحتاج إذنًا لتتحرك، وتُحرم من الحضانة لأنها لم “تكن رجلاً”، وتُكره على الزواج المبكر وكأن حياتها مشروع مزايدة. بعض القوانين لا تزال تخفف عقوبة القاتل إن قتل أخته بدافع “الشرف”، وكأن الدماء تُغسل بالتقاليد، وكأن العدل يُعيد حساباته إذا كان القاتل يحمل شرف العائلة على سبابته الملوثة.

أما المجتمع، فهو أقسى من القانون. هنا تُراقب المرأة في كل شهيق، تُحاكم في كل قرار، تُدان في كل لحظة تحاول فيها أن تكون نفسها. إذا سكتت فهي غبية، وإذا تكلمت فهي وقحة، إذا لبست فُتنت، وإذا تحجبت قُمعت، إذا أحبّت خانت، وإذا كرهت تمردت. باختصار: لا طريقة لتنجو، لأن كل الاحتمالات تُفسَّر ضدها، وكل خطوة تُشكك، وكل نجاح يُربط بأمر مشين، لأن العقل الذكوري العربي لا يستطيع استيعاب أن المرأة قد تكون ببساطة… ناجحة، ذكية، مستقلة، لا تحتاج وصايته ولا رأيه ولا خوفه المغلف بالحرص الكاذب.

والأشد مرارة؟ أن هذا الظلم يُسوّق باسم الدين، حيث يتحول النص الإلهي إلى أداة سلطوية بيد من يخاف من وعي المرأة لا من ضلالها.

ثم يأتي الإعلام، فيكرس الصورة النمطية، يستهلك جسدها إعلانًا، وصوتها ترفيهًا، ثم يطلب منها أن تكون محتشمة، بينما هو يُدير الكاميرا على فخذها لا على فكرتها. يسلعها، ثم يلومها، يعرضها، ثم يُدينها، يبيعها، ثم يشتمها… تناقض فج، ونفاق وقح.

ومع كل هذا، حين تطالب المرأة بحريتها، تُتَّهم بأنها تريد تقليد الغرب، وكأن الكرامة اختراع أوروبي، وكأن الحق في الحياة الكاملة امتياز غير مستحق. الحقيقة أن ما تطلبه المرأة العربية اليوم ليس نسخة غربية من التمرد، بل استعادة لحق مسلوب، وعدالة مؤجلة، وكرامة مهانة على يد مجتمع يُجيد التباهي بالرجولة، لكنه ينهار عند أول سؤال عن العدالة.

كفى.

كفى تزييفًا، كفى صمتًا، كفى تحايلاً.

المرأة ليست مخلوقًا ينتظر الإذن ليعيش، بل إنسان كامل، والمجتمع الذي يخاف حرية النساء، هو مجتمع يخاف أن يرى نفسه في مرآة صافية… مرآة تقول له بوضوح: أنتم الظالمون، وأنتم الخائفون، وأنتم سبب هذا الركود العقلي والانهيار الأخلاقي المزمن.

إن تحرر المرأة ليس ترفًا، وليس خطرًا، وليس عدوانًا على الهوية كما يروّج البعض، بل هو إنقاذ لهوية مختنقة، مشوّهة، غير مكتملة. فليس هناك مستقبل حرّ لمجتمع يُصادر حرية نسائه، ولا كرامة لأمة تنحني أمّهاتها وبناتها تحت ظل الخوف والصمت.

ومع ذلك، وعلى الرغم من كل هذا العنف الرمزي والمادي، لا تزال المرأة العربية تقاوم. تقاوم بابتسامة، وبدرجة جامعية، وبمشروع صغير، وبكلمة تكتبها في منشور، وبموقف ترفض فيه أن تُختزل في دور، أو تُكسر تحت عبء التقاليد. هي لا تطلب امتيازًا، بل عدلًا. لا تريد أن تسبق الرجل، بل أن تمشي معه دون أن تُداس. لا تتمنى إلا أن تُعامل كإنسان، كامل، له كرامته، وخياراته، وحدوده.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

النجاح في الفشل

يصر جل الكاتبون في الشأن، ومن لف لفهم على مقولة (فشل الحداثة المستوردة من الغرب)!!، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *