الأدب العربي يا صاحبي تاريخ الرذيلة، لا تاريخ الفضيلة، والمثقفون ضفادع الاستبداد، فلا تشدد يدك كثيراً على الوعي العربي، تاريخ نخبته الثقافية مثل تاريخ الحشاشين. ألم تكن النخبة العربية المثقفة كل عمرها في البلاط تصبّ الماء على أيدي الطغاة.
أكثر ما يضحكني احتكار الأدباء صفة المثقف، وكل عمر أغلب أدباء العرب ضفادع الاستبداد، أو وسعادين لإضحاك السلاطين، وصنّاع تاريخ الرذيلة، لا تاريخ الفضيلة.
بداية لا بدّ من القول لأصحاب العين الثالثة لإبليس الذين يجن جنونهم صارخين لا يجوز التعميم: أنا لا أعمم لمن برؤاه حول.. أن أقصد الغالبية في الظاهرة، يعني الغالبية، ولا ينفي كلامي الاستثناء، لكن الظواهر تؤخذ بالأكثرية، والذين يرون بالأمثلة التي أطرحها فيها نظر للنصف الفارغ من الكأس، هم من عبيد النرجسية، وأمثل مئة أم تبكي ولا أمي، من يقول: مليح يستريح، أي أصحاب السلبية في مقارعة الطغيان.
ثانيا: أكثر العرب يطلقون مصطلح المثقف على الأدباء والشحاذين في سوق العلوم الإنسانية، وهذا ليس الصحيح.. المثقف هو الذي يحمل تأثير تعليم، وتثقيف وتنوير وتمهير في أية مهنة أعمل أو فكر، والحقيقة أن الطورنجي والفران والكناس هم مثقفون، والمثقف النافذ في المجتمع، هم الوجهاء والمتنفذون وشيوخ عشائر ورجال دين، وهم في الواقع مَن يحرك المجتمع ويمثل ثقافته، ونوعها.
من المضحك أن يطلق مصطلح المثقف على الأدباء، لأن الأدب يتعامل معه المجتمع على أنه وسيلة للترفيه و مظهر للكماليات واللهو لا للتثقيف. ألم تكن أغلب نخب الأدب العربي في كل العصور أدوات إفساد لصالح الاستبداد، يزينون للحكام مظالمهم و طغيانهم. يرزحون تحت وطأة عبودية أهوائهم، يمثلون رقيق مال الطغاة والرأسمال الإعلامي للسلاطين. و التاريخ يشهد.
يشهد التاريخ أن أعظم شعراء العرب ظهروا في الجاهلية التي بلغت أوج التناحر والتفتت والتحارب، وساد فيها وأد البنات، و زواج الاستبضاع، وعبادة الأوثان، ولم يكن شعر هؤلاء الشعراء يدين تلك الظواهر، أو يعريها، بل كانوا يمجدون سادة تلك المرحلة، نمط عيشها وعاداتها و تقاليدها، فظهرت المعلقات تمثل ذرا الشعر العربي فنياً وفكرياً، و من شعرائها امرؤ القيس الذي أمضى نصف حياته في الدعارة واللهو. والنصف الآخر في استجداء نصرته على القبائل التي ثأرت من أبيه لظلمها، وقام بأشنع خيانة حين راح يغري الروم بمحاربة العرب، ويستجرها إلى قتلهم.
والأمثلة تعد ولا تحصى، فطرفة بن العبد، أودى بحياته جشعه وتهتكه، والأعشى كان صناجة بلاط العجم، وممجد عروشهم وأموالهم، لم يتحرر عنترة من عبوديته إلا لسواد عيون عبلة، وكم دبّج أشعاراً يندى لها جبين الإنسانية خجلا من بشاعتها، فقد كان يتغنى بأنه يترك القتلى للوحوش تتخير أغض لحم الإنسان، وأنه يجعل كؤوس خمره من جماجم السادة، ولم يخجل أن يصف أمه بالضبع.
زهير بن أبي سلمى على حقيقة ترفعه عن غيره، كان يتغنى بإنجاز هرم والحارث، وتناسى أن ابنة أوس هي من اشترطت على زوجها الحارث الزواج إذا أوقف الحرب، فالحارث أوقف حرب داحس والغبراء لعيون بهيسة بنت أوس التي قالت له: ذُكر لي أنك شريف، ولا أرى ذلك، أنت تنشغل بالنساء والزواج، وأهلك يقتلون، فضربته نوبة نخوة فسعى لإيقاف الحرب.
والنابغة الذبياني تملق النعمان بقصائد تخزي الكرامة البشرية، وإثر تلك الأحوال للشعراء في الجاهلية، جاءت الدعوة الإسلامية لتعلن صراحة : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ، وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ،إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.
والحقيقة أما الشعراء فيندر أن يكونوا صالحين، و لم تول أهمية كبرى لهم في الإسلام فضعف الشعر، وقال الأصمعي صراحة: الشعر بابه النكد.
جاءت الدولة الأموية بانقلاب سلطوي مجاهر باستبداده على ما في هذا الاستبداد من بناء حضاري لا ينكر، لكنه بني على أكتاف مَن صدق إيمانه بالدعوة الإسلامية ورهن حياته للفتح ونشر الدعوة، بينما كانت الحاكمية تستغل خراج هذا الجهاد لصناعة مجدها الملكي. فانتشر شعر النقائض ليلهي الناس بالسفائف، و تناحر الشعراء، فبرز جرير والأخطل و الفرزدق، نزلوا بالشعر فكريا إلى أسفل درك القبلية و التنافر، والتهريج، وتبعهم شعراء الأحزاب السياسية لينشروا شعر الفتنة و تأجيج الحروب.
وفي الحجاز شاع الشعر العذري الذي انطلق في كثير منه من التلهي بقضايا ذاتية مرضية منعزلة عن الحياة تتلهى بقصص عشق مرضية فظهر الشعراء المجانين. بينما راحت مكة تفور بشعراء الغزل الحسي المادي و التهتك، و كانت أشعراهم تستغرق في أجواء الجواري و الغناء، والعزف هرباً من ظلم الحكم الأموي في تجاوزه أسس الدين. وبدأت أشعار الزهد تظهر على يد سالم البربري وأبي الأسود الدؤلي، تسوغ الهزيمة و الانعزال، بل دخل على يد عبد الله بن الأعلى إفساد الدين ونشر عقائد وثنية تنخر الدين وتبدد ذات الإنسان وترجرج عقيدته.
في الدولة العباسية بدأ ظهور الشعر الذي ينشر التناحر الفكري والديني والشعوبي وعمل على تفسيخ القيم وهدر والأخلاق، ونشر المجون والزندقة، على يد بشاربن برد المتزندق والشعوبي، وأبي نواس الماجن المتهتك، ابن الرومي المريض نفسياً بالشؤم، وظهر أبو تمام طبال المعتصم، وانتشر بعده تيار الزعران والسرسرية مثل أبي الشمقمق وأبو العبر. ثم ظهر مع تفتت الدولة العظمى المتنبي أكبر دجالي الاستبداد و التزوير و التغول النرجسي، و أبو فراس الحمداني المروج للفسق، شأن ديك الجن الذي جاهر بالمثلية، دفع سلوكه ورد للشذود، فاخترع قصة على نمط المسلسلات الهندية، ليظهر بطلاً نادماً على خطاياها.
طبعاً في هذا السياق لا نستثني شعراء التصوف الذين سربا أفكاراً من عقائد دينية ثنية هندية وفارسية، وألبسوها جبة إسلامية، فانحرفوا بالدين عن مبادئه، وأشاعوا طقوساً ثنية فيه، ألهت الناس، وأغرقتها بالخرافات الجهل الخمل.
في الأندلس دأب السلاطين إلى إبعاد العرب عن الجيش، والاعتماد على المرتزقة من غير العرب، لكي يبعدوهم عن التأثير وتشكيل قوى يخشونها، فدفعوا المجتمع إلى التلهي بالجواري، ومجالس الفسق والمجون، فراحت ابنة الخليفة تتباهى بخلاعتها وامتهان الشعراء بعشقها : أمكن عاشقي من لثمي خدي/ وأعطي قبلتي من يشتهيها
وكان أكثر شعراء الأندلس صوت السلاطين، ونجوم مجالس البغاء، حتى ظهرت الشاعرة “نزهون” تباري الرجال بالهجاء باستعمال ألفاظ جنسية فاضحة، والخليفة ذاته ابن عباد كان شاعراً مأفوناً مشغولاً بصنع جبلة طين من عطر وورد لتدوسها زوجته الجارية الرميكية التي استبدت به.
استمر هذا النمط من الشعراء إلى أن ظهر شعراء المماليك، فمثلتهم ثلة من أكثر زماري الانحطاط والتغزل بالغلمان والحشيش.
وفي العصر الحديث، ادعوا النهضة، فاستوردوا الفكر والفن الغربي ليفسخوا، المجتمع العربي وهويته، وجعلوا المستشرقين أئمتهم فأدخلوا الأعداء من باب آدابهم، ثم جاءت الماركسية، فشرع الأدباء العرب يهدمون ثقافة العرب، ليعبدوا ماركس فصار آلهتهم بدلاً من اللات والعزى، ثم جاؤوا بالحداثة التي تعني باختصار القطع الكامل مع التاريخ والدين والفكر والثقافة التي قامت عليها المجتمعات العربية، وأعملوا معاولهم في كل مقومات وجودهم، وصاروا أعداء الشخصية العربية وتراثها ودينها بدعوى التنوير والتطوير، وتبني قضايا المجتمع
وهم منعزلون في أبراج من ورق، يمارسون سفاحاً أخلاقياً لا إنسانياً تأباه الحيوانات. فتراهم يلمعون حذاء أدنى متنفذ، وتثير أحاسيسهم الأدبية ساق امرأة مكشوفة، أكثر من بحر الدم الذي يغرق الجغرافيا العربية، أعرفت يا صاحبي كيف استولى على ثقافتنا أدباء الرذيلة، ولماذا روجوا أننا أمة شعر، وألهونا بالتغني بديوان العرب، وجعلونا نعتقد كل حضارتنا الشعر، ليقنعونا أننا يتامى حضارة، وورثة رذيلة الأدباء.
ولك يا صاحبي أن تتهمني بما شئت، لكنني لا أحكم على الشعر من منظور الأخلاق، بل أبين لمن هو يقيس الشعر على أنه نبع فضيلة، وأنا أقرأ شعر كل من ذكرت والسياب والماغوط وأدونيس ودرويش، وأستمتع بالشعر، ولا أمجد قائليه أخلاقياً و لا أراهم قدوات إصلاح. فالشعر لا يصنع حضارات، فلم تقم حضارة اليابان الحديثة على إرث معلقات. ولا على حكايا سيف الزير وجرو كليب ونار براجم عمر وبن هند، ولا أغاني مهيار بفم أدونيس.
مجلة قلم رصاص الثقافية