الرئيسية » Vertaalde Artikelen » هذه المرّة أنا الذي حكيتُ لِجَدّي
Hans Temmerman

هذه المرّة أنا الذي حكيتُ لِجَدّي

 كانت كلّما ضاقت بي السبل، واهتزّت قدماي على طريق عبّده لي جدي بالحكايا والأمثال التي تسدد خطاي، ألجأ إليه، وكان على الرغم من استغراقه بالسوالف، يخمّن ضيقي، فيصطحبني إلى (تل البوير) القريب من بيتنا. فنجلس على قمته، ويبدأ جدي بسرد حكاياته. وكان يتفنّن بخلط الواقع بالخيال، ونسبة القصص المأثورة إلى جيله، لكي لا يشعرني بأنّه يعظني، لكنّه هذه المرة استفزّني بصمته.

كان جدي في العادة يستهلّ حديثة بروايةِ طرفٍ شعبية ساذجة محرّفة عن جحا، أو عن نكت شعبية. كنت في مزاج لا يسمح لي بتقبل طرفه، فإنا في حال الضحك عدوي اللدود. لذلك اضطرني هذه المرة أن أبادره بالشكوى، فقلت له: جدي، سأحكي لك حكاية، ابتسم مخفياً حنقه، وأنا أصادر دوره الذي كان يمارس فيه سلطة خبرة السنين التي عجنته وعلّمته…

هزّ رأسه وقال: تفضّل علّمني أيها الغرّ، قلت: يحكى يا جدي أن ناسكاً نزل من خلوته ليشتري بعض حاجاته بعد غيبة طويلة، وكان قد وهبه أحد عابري السبيل نقوداً معدنية لدى لجوئه في ليلة عاصفة إلى خلوته، وصل الناسك إلى السوق، واختار بعض ما يحتاج إليه، ثمّ أخرج من جيبه بعض النقود ليسدّد ثمن ما اشترى، فتأملها البائع قليلاً، ثم قال: سيدي الناسك، أعتذر منك هذه النقود مزيفة، وما إن سمع الناسك قول البائع حتى سقط مغشياً عليه، فأدهشَ البائع وتجمع الناس، ورشوا عليه الماء حتى صحا، ورأى ما حوله، فطيبوا خاطره، واعتذر البائع بأنه لا يشكك بأمانته، وهو الناسك المعروف بعطر أخلاقه، فتأوه الناسك، ثم قال: أنا لم يُغشَ عليّ خوفاً على أموالي، إنما أغشي عليّ خوفاً  من أن تكون أعمالي مزيفة.

ضحك جدي وضحك، ثم مسح شاربيه، وقال: فرخ البط عوّام، وماذا بعد، قلت له: ألم تملأ ببيتيك الشهيرين سماء  (تل البوير) و(تل بلاّن) وكل الأودية المجاورة  التي كادت أن تردّد صداهما:

     وَإِن كَثُرَت عُيوبُكَ في البَرايا                   وَسَرَّكَ أَن يَكونَ لَها غِطاءُ

     تَسَتَّر بِالسَخاءِ فَكُلُّ عَيــــبٍ                    يُغَطّيهِ كَما قيلَ السَــخاءُ

ولكي يغيظني جدي راح يترنّم بهما، ثم قال: هذه حكم من ذهب، أثبتت صحتها الأزمنة، والأمكنة.  فقلت له: أخاف يا جدي أن تكون حكمك مزيفة، وبعد فوات الأوان تكتشف أنك أخطأت في تربيتي على كلام لا يسمن، ولا يغني عن جوع.

وكأنما فُتح عليّ كمتصوف أمام شيخه، فتابعت: يا جدي، أصبح المتزحلقون على أيامنا، يدمنون ترديد هذه الأبيات، ويوظفون حكمها للوصول إلى ما يريدون، فتكون وسيلتهم إلى ما يصبون إليه، إذ أصبح كل طامع إلى منصب أو جاه، بدلاً من أن يعدّ نفسه ليكون كفوءا لما يبغي، فإنه يستر عيوبه ونواقصه التي لا تحصى بالسخاء، ولك يا جدي أن تذهل كم لكلمة سخاء في زمننا من مرادفات لا تخطر ببالك.

لا تؤاخذني يا جدي. أخشى أن تكون حكمك فاسدة وليست مزيفة. وسأقطع الطريق الذي لم يكن ألف ميل وحسب، بل أبعد من درب التبانة، ولا أعود بخفي حنين، وحسب. بل تكون الأحلام قد سلبتني حذائي خشية أن أقذفها به.

ضحك جدي ضحكاً لم آلفه منه من قبل.  وقال يا حفيدي: انظر إلى تلك التينة الحمقاء أسفلنا.  أتعرف أنهم سموّها التينة الحمقاء قبل أن يسمعوا بإيليا أبو ماضي؟؟؟

وصدقني لا أحد كان يعرف إن كان بائع  “قضامة” مالحة أم شاعراً مجرياً، سموها ذلك لأنها قصيرة الساق، كبيرة الحجم. وكأنها امرأة ممسوخة منكوشة الشعر، معتوهة، تقف جانب الطريق، ولا يستفيد أحد من ثمارها. لأن الأطفال يرمونها بالحجارة ويقطفون ثمرها قبل أن تنضج….

بقي جدي يحكي…. ورحت أتذكر تلك الموظفة الشمطاء المتصابية التي تتألق بالموضة  تألقها  بهدر الزمن في حياكة  المؤامرات، ونيل رضا السفالى الذين يتعالون بالمكائد ،وتحبط الآخرين، وتسفّه أعمالهم لتثبت أنها موجودة وذات أهمية، ومرّ العمر، ولم تجنِ إلا رؤوس المظلومين، ومرارة كيد عقم العمل.

وكنت كلما مررت من جانب مكتبها أتخفّى لكيلا تراني فتعكّر صباحي. وأنا أردّدُ وتينة حمقاء… انتبه جدي لشرودي، وقال: أخشى يا بنيّ أن يصيبك ما أصاب ابن صديقي (البسناديّ)…. كان يزورني كلّ عام ونصعد هذا التل، فيحكي لي عن ابنه الذي رباه كل شبر بندر، فصرف عليه ما يملك، وخصّصت أمّه نتاج كل بيض دجاجاتها له، وباعت حليها، وكانت تغصّ وهي تتفاخر بأنها تصرف ذلك على تعليم ابنها الذي ذهب إلى العاصمة ليخرج من الجهل إلى النور، ويعود حاملاً شهادة كبيرة، ينقذ القرية بعلمه من جهلها، فيعلّم (كرمو) ألا يغشّ الكباب الذي يذوقونه من الحول إلى الحول، ويخلّص سهرة الضيعة من كذب (برهوم) الذي يستولي عليها بسرد بطولاته في إرشاد كولومبوس إلى الوصول إلى أمريكا عن طريق الضيعة التحتاني، وهو لم يغادر يوماً جدار الضيعة.

لكن يا بني في آخر مرة رأيت فيها صديقي سألت عن ابنه: أما حان له أن ينهي علمه، وقد قارب الستين، فقال بمرارة، تصوّر يا صاحبي أنّ ( المنظوم ) ابني بعد أن أنهى دراسته، توظف بالعاصمة بحجة أن أهل القرية غارقون في جهلهم، وحياتهم معلقة على الخرافة، وبقي هناك، يدّعي أنه صاحِبَ كلّ مسؤول يكبر، وأنه مفتاح كلّ الكبار، وصار (أفوكاتو مفلس)، يحكي ويجادل بكلّ شيء، حتى فاتته الحياة .

سألته بمرارة: ماذا فعلت بنفسك وبنا؟ فقال: لا تبتئس إني بعد نهاية خدمتي سأقوم بعمل جليل…. سألته: ما هو؟ ردّ: سأعود إلى الضيعة وأكتب سيرة شخصياتها الطريفة، وعاداتها. قال صديقي: حينها شعرت برغبة بالبكاء لكن (شيبتي )منعتني، تصوّر يا صاحبي غاب أربعين عاماً، وبعد أن خاب- إلا بالحكي- يريد أن يعود إلى الضيعة ليسجل سوالفها التي دفعته إلى هجرانها أربعين عاماً … أربعين عاماً، وأشار إلى التينة الحمقاء، وردّد هناك حدثني، وهناك ودعني، وهناك علمتك، وأخشى أن تعود، و لا تجد ما تستر به خيبتك إلا أن تكتب عن التينة الحمقاء ….. جَدّي … تُرى هل حقاً ما وجدت إلا أن أكتب بعد كل هذا الصبر عن التينة الحمقاء؟؟‏

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن د. خالد زغريت

د. خالد زغريت
كاتب وأكاديمي سوري، إجازة في اللغة العربية، دبلوم دراسات عليا شعبة الأدبيات، دبلوم تأهيل تربوي، ماجستير في الأدب القديم وعلم الجمال، دكتوراه في الأدب القديم وعلم الجمال. يعمل مدرساً في كلية الآداب. ينشر في الصحف والمجلات والدوريات. له عشرون بحثاً علمياً محكماً في الدوريات العربية والدولية وعدة كتب منشورة منها: قامة النار وخريف السيدة الأولى، أهرامات السراب، الصفير في وادي الشياطين.

شاهد أيضاً

!Wees geen pion in iemands oorlog

Wees geen pion in iemands oorlog! Hoewel de sterren van de traditionele ideologieën die de …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *