السقوط

والكآبةُ تفحُّ في رأسكَ، وتنفثُ سمومها السّوداءَ فتجري في أعضائكَ، وتجرفُ معها الرطبَ اليابسَ الذي يتطايرُ دون جاذبيّةٍ خبطَ عشواء، من يُصبْه كمنْ يخطئْه،  يحرّكْهُ نحو المصبِّ. من أنتَ ؟ وماذا تفعلُ في هذا العالم وحيداً، ومليارات الثقوبِ السَّوداء تدعوكَ إلى السُّقوط في فوّهات العدم. يطاردكَ حلمُ السُّقوط منذ طفولةٍ شقيٍّة, تسقطُ من سطحِ البيتِ, من الشجرةِ, من السُّور الأثريِّ المتهدّمِ. تسقطُ وتسقطُ إلى اللانهايةِ. حيثُ لا تسمعُ إلاّ صراخَكَ في الكابوس. وها هي الأحلامُ ذاتها ترافقكَ كبيراً… السّقوط والسّقوط من المصاعدِ وناطحاتِ السَّحابِ وجسورِ القطاراتِ السَّريعةِ. ومن نبتةِ الفاصولياء العملاقةِ، ومن برجِ الأميرةِ المسجونةِ. تقرأُ عن فيزيائيّة الأحلامِ، ومن أنّ خوفكَ من السُّقوطِ، هو خوفُ الكائنِ الذي كنْتَهُ منذ آلافِ السّنين حين كان يسكنُ أعالي الأشجار. تقولُ في نفسكَ : تبّاً لعلمٍ لا ينقذني منْ كآبتي ومنْ كوابيسي، ومنْ رماحٍ مُدببةٍ صغيرةٍ تتساقط حولي من كلّ جهاتِ الكون. الكونُ الذي في الخارج, الكونُ الذي يجعلني أمشي حافياً على ضفّةِ النهرِ القريبِ باحثاً عن تمساحٍ يفترسُ سيقاني، فأجلسُ خلفَ نافذةٍ، في وطنٍ ليس لي، أدرّب كلماتي على الصممِ، كيلا تسمع حنيني المُدوّيَ، إلى رقصٍ في احتفالِ الحياة.

قبل أنْ تنجبَ القصائدَ وقبل أن تنجبَ الأطفالَ، أُوْرِثتَ الكآبةَ. تلك الكآبة التي تُحْسنُ ألفَ لغة، وتكتبُ ألفَ كتابٍ، وتترجمُ كلَّ أصواتِ الحياة، إلى نعيبِ بومةٍ تسأل عن الجدوى.

وهل من جدوى في الحبر الذي يصبغ كفيكَ، ولكنّه عاجزٌ عن رسم ابتسامةِ أملٍ على قناعك الكرنفالي ! وهل من جدوى أنْ تبذرَ أطفالكَ في أثلامِ الحياة، ثم تقضي عُمركَ هاشّاً عنهم الجرادَ والأفاعي، لتكتشفَ أنهم تسللوا من تحت أقدامكِ في الليل، وتركوكَ وحيداً لأوهامكَ! وهل من جدوى في انتصاركَ للإنسان وفي دفاعكَ عن الجَمال، وقبركَ منذ ولادتكَ، تحفرهُ الهزائمُ بمخالبها المدببة! هل من جدوى وأنتَ تبحثُ في كتبِ النبوءات، وفي كتب العلم، وفي كتب الشِّعر، عن يقينٍ واحد فلا تجد.

تعشقُ (المعريَّ)، وتعشقُ قراءتها بعد قراءة (المعريِّ). وتعشقُ رفقتها في زيارة ضريح (المعريّ)، وماذا بعد ذلكَ غير عواصفَ رملٍ هوجاء تمحو كلَّ لحظات السَّعادة السريعة، لتعيدك شبحاً يقف خلف قضبان المعرفة. يبحث عن سجّانه الخفيَّ ليسأله عن موعد زيارة الأمِّ التي ماتت وتركته بدون فطامٍ وبدون عظامٍ، وها هو لا يستطيع تقويمَ اعوجاج فكّه لينطقَ بالحقيقة. ومتى اكتشفتَ الحقيقةَ؟ تسألهُ حمامةٌ منزليٌّة تشاركه الطعامَ، يجيبُ ببساطةٍ: حين قرأتُ، وماذا قرأتَ؟ تعيدُ الحمامةُ السؤالَ، فيعدد لها المدنَ المهدّمة، والشهداءَ والطائراتِ والقذائفَ وحشرةَ (كافكا) وقوارضَ المدارس التي تأكل الآذان المغمورة بزيت الشَّيخ عقاباً على الرسوب المتكرّر في الإنصات.

وماذا قرأتَ؟ يجيبُ : إلفةَ طائر (أبو الحنِّ) وهو في عشّه على الجدار المهجور، فترفع صوتها جرذانُ المقابر الجماعيّة تحت الجدارِ.

تستيقظُ الأساطيرُ البابليُّة والسومريّة واليونانيّة  في شِعر (السَّياب)، يستيقظ الصقرُ الإلهيُّ، الذي يمزّق الروحَ، ويتخلّى تمّوزُ الخصيبُ عن المدينة، فينتشر الجوع والجفاف، وتعوي كلاب الجحيم.

وكلُّ ما عليكَ فعله لتتأكد من الصّوت والصّدى، هو أنْ تذهبَ إلى أعلى جرفٍ صخريِّ، وتختبر السقوطَ الذي منه تخاف. وحين تسمع تلك الهسهسةَ الوحيدةَ الغامضةَ، لزواحفِ العبثِ العملاقة. استعنْ بالتورية، واختفِ في الشوارع التي تهلّل لـ( فان غوغ )، وارسمْ معه حدائقَ الشرق الصوفيّة المكتنزة بالأشواق والرغبة في لبس الجبّة والصراخ : لقد وجدتهُ!

ترصفُ كلماتكَ بعنايةٍ، تطبعها بأناقةٍ على حاسوبك الشخصيِّ، تخشى من كتابتها بخطِّ يدكَ، كيلا تعدَّ رسالةَ انتحارٍ. تعنونها برسالةِ حياةٍ، وترسلها إلى أصدقاء لم يعودوا مطلقاً أصدقاءً، وإلى أبناء لم يعودوا مطلقاً أبناءً، وإلى حياةٍ لم تعد حياتكَ, لكن رغم ذلك تريدُ

أن تكتشفَ المعنى فيها، من أجل خاطرِ امرأةٍ واحدة، قدّمتْ لكَ حياتها عكّازة ياسمين. فلم تستطعْ اجتياز ثقبٍ أسودَ واحد، تمدّد من حبلِ مشيمتكَ، وما زال يتمدّد. وها هو يسبق هذه السطور، ويشير إلى أعلى جرْف صخريٍّ…

 تنحدرُ من علٍ، فلا تمزقكَ الصّخورُ ولا تنهشكَ الوحوشُ. لقد أنبتتْ لكَ رُقوقُ الغزلان، و أوراق البردى، وجذوع أشجار السرو، وأثوابُ حبيبتك، أجنحةً من ورقٍ كريمٍ ونادرٍ، لأنّه تقبّل صلاةَ الحبر الآثم، وحمَلَكَ إلى الأعالي حيث تبدو احتمالات السقوط أكثرَ واقعيةً تماماً، وأكثرَ استنهاضاً للطيران. حينها لن تفكّرَ بالسّقوط من المكان، لكن بالسّقوط إلى  الزمن على تلك البقعةِ من  أرضِ  الأبديّة الصلبة، حيث ستتركُ قلمَ كتابةٍ، أو إزميلَ نحتٍ، أو مصباحَ شغفٍ، أو ربما قطرةَ دمٍ تدلُّ عليكَ. رغم أنكَ لا تموت سوى مرّةٍ واحدة تتكرّر آلاف المرّات، وذلك حين تعي أنكَ زائلٌ وأنك آيلٌ للسقوط. تعارضُ بذلك رأي ( فرويد )، الذي يرى أن الإنسانَ المعاصر هو الإنسان البدائي، لا يملك غريزةً مستعدةً للاعتقاد بالموت. ثم تعود لتسترضيه بعد قليل، مدبّجاً في مديحه إنشاءَ البلاغة الفخم : يا معلّمَ تفسيرِ أحلامِ السِّقوط، لم تكن تحلمُ، حين صعد السّرطان إليك فأنقذك من السِّقوط بالموت !

كاتب وشاعر سوري | موقع قلم رصاص

عن د. حسان الجودي

د. حسان الجودي
شاعر وكاتب سوري، حاصل على إجازة في الهندسة المدنية من جامعة دمشق, ودكتوراه في الهندسة المدنية من جامعات بولونيا. عمل مدرساً في قسم الهندسة المائية، بكلية الهندسة المدنية - جامعة البعث. حاصل على جائزة سعاد الصباح للإبداع الشعري عام 1994 عن مجموعته مرايا الغدير.

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …