الرئيسية » نقار الخشب » محمد ملص… يفضّ «وحشة الأبيض والأسود»

محمد ملص… يفضّ «وحشة الأبيض والأسود»

بشار إبراهيم  |

لن تتركك يوميات المخرج محمد ملص، الصادرة حديثاً عن دار نينوى، بعنوان «وحشة الأبيض والأسود»، إلا بعد تمام قراءتها، فهذا مخرج يبرع بالكتابة على الورق، تماماً كما يبرع بالكتابة على الشاشة. يعرف كيف يقصّ عليك ما يغويك ويغريك، ويعيد إليك نبض أيام مضت.

يختار محمد ملص الفترة ما بين العامين 1974 – 1980 فضاءً زمانياً ليومياته، مُقصياً منها ما قبل وما بعد، من دون أن نعدم إطلالات سريعة على كل منهما، كأن يعود إلى سنوات الإيفاد ودراسة السينما في «فغيغ» (المعهد العالي للفنون السينمائية في موسكو)، بدءاً من العام 1968، أو أن يمدّ خيط الكلام إلى العام 1987، لدى الانتهاء من وثائقي «المنام»، وعرضه. وصولاً إلى يومنا هذا.

تفيض يوميات محمد ملص عن أن تكون يوميات سينمائي مُفرد، لتتحوّل إلى ما يشبه يوميات بلد ووطن، بسينماه وتلفزيونه ومؤسساته وإداراته ووقائعه وتحولاته وفجائعه… ظلال من السيرة الذاتية لسينمائي جاء في لحظة عصيبة، ليعمل في «التلفزيون العربي السوري»، لا في «المؤسسة العامة للسينما في سورية»، ولصداقات انعقدت وتوطّدت، وأخرى عبرت وانطفأت، ولأحلام ومشاريع أفلام، منها ما اكتمل، ومنها ما انطوى، أو ذرته الأيام.

«وحشة الأبيض والأسود»؛ 244 صفحة في كل منها حلم وأمل. لهفة وانتصار. خيبة وانكسار. إطلالة على عالم محمد ملص الإنساني الشخصي، والسينمائي المهني، وتلك السنوات الأولى القاهرة، التي صنعت واحداً من أهمّ السينمائيين العرب.

وكما عباس كياروستامي اختار البقاء في طهران، محتفظاً بمسافته ومساحته الخاصة، يجول العالم ويصنع أفلامه ويعود إلى مدينته، كذلك يفعل محمد ملص الباقي في دمشق، محتفظاً بمسافته ومساحته. لعل قوله السينمائي تضمّن مقاطع منه في «سلّم إلى دمشق»، ولكن الصحيح أن قوله كاملاً ينفرد في فضاءات أفلامه جميعها، منذ أفلام التخرّج، و«كل شيء في مكانه وعلى مايرام سيدي الضابط»، ووثائقياته، وصولاً إلى «أحلام المدينة»، و«الليل»، و«باب المقام».وحشة الأبيض والأسود

في «وحشة الأبيض والأسود» نلمس أحلام محمد ملص، ومشاريعه، ما تحقق منها، وما لم يتحقّق. صداقته الباهرة مع المخرج عمر أميرلاي، ومشاريعهما المشتركة والمنفردة. حواراتهما، ونقاشاتهما، وربما جنونهما. محمد ملص وعمر أميرلاي، في السبعينات من القرن العشرين؛ هذان سينمائيان كان يمكنهما نقل سينما بلدهما إلى آفاق العالمية، لولا أن كل عصيّ الاحباط وُضعت في دواليب مشاريعهما.

مع مذكرات من هذا النوع تستعاد تلك الأيام الحبلى بالأحلام السينمائية. تجربة النادي السينمائي. قسم الإنتاج السينمائي في التلفزيون. جماعة المؤسسة العامة للسينما. المنازعات الخفية، والمنافسات الشبيهة. كثير من المشاهد طالها المونتاج. ربما لم يأت الوقت لقول كل شيء! لكن لا بد من وقت يستكمل القول كلامه. الصعود والانهيار.

ذاك كان زمن محمد ملص وعمر أميرلاي. قيس الزبيدي ونبيل المالح. برهان علوية وتوفيق صالح. حميد مرعي وأبو عبده سالم. أفلام قصيرة وطويلة. روائية وثائقية. ذاك كان زمن السهرات الطويلة والنقاشات المديدة، وربما الخصومات العميقة. البحث عن السينما الجديدة، والسينما البديلة، و«سينما من أجل التقدّم والتحرر». زمن سينمائي لا يعجبه العالم، ويريد تغييره، وتغيير كل ما لم يتعرض للتغير. زمن الثقافات العميقة. المشاهدات على رغم صعوبتها إلى حدّ المستحيل. القراءات والبحث في الفكرة والنظرية والمقولة من إيزنشتاين إلى بازان. زمن بريء إلى حدّ كبير من آفة الاستسهال، وداء التجرؤ.

بارع محمد ملص في الكتابة أصلاً. إنه قادم من عالم الرواية، وربما الشعر، ناهيك عن الكتابة الصحافية، وكتابة المذكرات. وهنا تتأكد نزعات الكاتب فيه، الذي يتقدم عندما يتكئ المخرج على وسادة انتظار ما قد يأتي أولا يأتي. نموذجية مشكلة السينما السورية، والعربية، ومأساتها، عندما يجد مخرج من عيار محمد ملص نفسه في حاجة للبحث عن تمويل فيلمه الجديد.

كاتب وناقد سينمائي | خاص موقع قلم رصاص  

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …