آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » “فردقان” القلعة التي شهدت اعتقال ابن سينا، وفيها تعرّف على أجمل نساء الدنيا

“فردقان” القلعة التي شهدت اعتقال ابن سينا، وفيها تعرّف على أجمل نساء الدنيا

“يأتي ابن سيناء راكباً بغلة هرمة، مفكوك العمامة، مكشوف الرأس، كسير النفس، خجلاً من هيئته، ومن السلسلة الصدئة التي تقيد قدميه ويديه”.

لقد جاء به الحراس وسلموه إلى منصور المزدوج هو ورسالة تقول : “اكرمه ولا تهنه” وعلى هذه الخلفية تدرج رواية يوسف زيدان وتتابع فيها حكاية الصراعات السياسية والعسكرية التي أحاطت بالموضوع الذي كان يشغل البلاد.

ونحن نحسّ بأن الكاتب قد امتلأ تماماً بقصة ابن سينا، فقد جمع المصادر من حياة الشيخ الرئيس ودرس الكتب التاريخية دراسة وافية، وحين هضم كلّ ذلك شرع يكتب هذه الرواية التي تدخلنا في عمق الحدث وتجعلنا نتفاعل مع شخصياتها بمزيد من البهجة والسرور.

هذا الاعتقال الذي جرى لابن سينا سببه أن الأمير سماء الدولة كان يريد إرضاء عسكره، وهم مغتاظون من كتابه “تدبير الجند والمماليك والعسكر”، فقد نصح الحاكم بإبعاد العسكر عن المدن وعدم الإفراط بعطاياهم، وكانت النتيجة أن الأمير تجهم في وجوههم وقلّص أرزاقهم، وكان الأمير يريد أن لا يتكرّر هذا وخاصة أنه على أبواب حرب مع الأمير علاء الدولة.

لكن العسكر أكثروا من التشنيع عليه والنيل منه كوزير للأمير شمس الدولة أبي طاهر البويهي، فقد حاكوا المؤامرات ضده، ثم اقتحموا منزله بهمذان ونهبوا ما فيه واقتادوه إلى السجن، وانتهى الأمر بأن نفي ابن سينا من البلاد وأبعد عن همذان وما حولها، واختفى عن الأنظار، حينذاك مرض شمس الدولة، وظلوا يبحثون عنه إلى أن وجدوه، وقد عالجه حتى شفي ، وحين مات أراد أبن سماء الدولة أن يستوزره، فاستعفى منه، واعتذر، غضب عليه الأمير، وأرسله إلى قلعة فردقان، مع التوصية السابقة وعلى ذلك جلب له منصور المزدوج حساء دافئ وخبز وأخذ يأكل ببطء، والمنصور المزدوج يجلس أمامه ويحدثه بما كان من عناء السفر بعد أن حرّره من الأصفاد.

ومنصور المزدوج هو سيد قلعة فردقان، ويصف لنا هذه القلعة بأنها قابعة من قديم الزمان، لا شيء حولها، أرض يباب، والزعاق هو معروف بين العساكر بسبب علو صوته وكثرة صياحه، ولكنه جليل القدر ومشهور كحكيم بارع، وله عند الناس مقام عالٍ.

الشخصيات في الرواية كثيرة، من الحكام والأمراء والعسكر، استطاع الكاتب أن يتعامل معها، ويؤدي أدوارها بمنتهى البراعة، وأما بقية أفراد الشعب فقد كانوا يقومون بأعمالهم، وكأنهم يعيشون بيننا، والنساء لهن وضع آخر عند ابن سينا، فمن المعروف عنه أنه كان يتودّد إليهن، وهو معجب بجمالهن الخالص، فقد أخذوه ساعة وصوله إلى فردقان، ووضعوه في غرفة، ليس بها إلا سرير واحد، وضعوا عليه مخلاة الكتب والأوراق التي جاءت معه، عند ذلك يستعيد ما جرى له مع سندس فتثور مواجيده، وقد وصفها حينذاك، بأنها “أنوثة مكتملة” لكن أمّه ترفضها، لأنها على رأيها خليعة وغارقة في الإثم، وكان ابن سينا غرّا في العشرين من عمره، لا يعرف شيئاً عن طبيعة النساء”.

وفي الرواية أنه عالج الأمير مجد الدولة من الوساوس السوداوية، وخلال المعالجة يلمح بشغف الفتاة التي اسمها “روان” وشعرت صاحبة القصر، أم الأمير أنها تعجبه، وهي مولودة في هذا القصر من أب وأم مملوكين، وهي من قبيلة “جكل” التركية الشهيرة بحسن نسائها، جمالها هادئ، قوامها منسرح ـ تميل إلى النحافة، وحين قبل بها جعلت منزله مزداناً بالألق، هو يكتب وهي ترمقه خلسة في مكانها على الدكة، سندس فاجرة النظرات والحركات لكن روان هذه ذهبت مع مختطفها الذي يجيد استعمال الرمح، ثم باعها إلى تاجر عابر كان في طريقه إلى سمرقند حين هاجت الجند على ابن سنيا، ونهبوا بيته، وسمرقند صارت بيد الغزنوي الذي يتمنى بأن يظفر بابن سنيا للانتقام منه لمخالفته والسخرية منه، إنه لا يحترم العلماء والحكماء”.

والثالثة هي ماهتاب، وقد كان أخوها يتردد عليه، وأخبره أنها تريد أن تلقاه، لأنها مهتمة بمهنة الطب، وتريد أن تسأله بعض الأسئلة التي تتعلق بهذه المهنة، وهي تعالج النساء الحوامل، وعندما يراها ابن سينا، يقول يوسف زيدان: “كان سابقاً قد سمع بأن ماهتاب حسناء، لكن البون شاسع بين السمع والمعاينة”.  ثم بدأت تعدُّ له الطعام وعلم أنها خطها جميل، وقد تتلمذت على يد أبي الريحان، وولدت هي وأخيها في مدينة شيراز، في عام 385 هـ من عائلة ثرية، وكان أبوها محباً للعلم والأدب، استقدم الأستاذة الجيدين، وقد تزوّج أخوها مهيار، أما هي فلن ترضى إلا برجل مثل أبيها، ويقول ابن سينا عن ماهتاب: “لحضورها وهج يسلب الألباب ويجبر الحكماء على أن يلووا أعناقهم كلما نظروا إلى وجهها الصبوح”.

ثم يملي عليها بعض الإطروحات  في الطب والقانون وفي القياس والبرهان والجدل ويختم في السعادة الحسية والعقلية، فيكون لدينا كتاب “القانون في الطب”.

بداية يداوي المزدوج من حصاة في الكلية، وكذلك يداوي أهل القلعة، ويفحص العسكر فيعالجهم من القولنج، ويطلب الأعشاب والعقاقير، وينهمك في فحص الأبدان نهاراً وليلاً في تسويد ثم تبيض مقالة في القولنج، يفحص كلّ العسكر ويعالجهم إلى أن جاءت ماهتاب، وأخذ يملي عليها، وحين تغني له يعشقها عشقاً جارفاً.

ويصف لنا أباه، فقد كان رجلاً أفغانياً نحيلاً، حاد الملامح، شديد الذكاء، يحب المطالعة، حصل على المعارف العقلية والشرعية، وقد رحل من بلخ وكان عمره في حدود العشرين إلى خرمثين، واشتغل هناك في وظيفة ديوانية عند السلطان نوح الثاني بن منصور الساماني الذي ثار عليه الجند فاستعان بسبك تكين لكن هذا الأخير استولى على السلطة وأزال دولة السامانيين وحلّ محلهم وأعطى لنفسه لقب سلطان بخارى ونيسابور وخوارزم.

وُلِدَ ابن سينا في أفشنه سنة 370 هـ/980 م، ثم انتقل إلى بخارى وهو ابن خمس سنوات،ِ بقي فيها حتى سن العشرين، وتلقى العلم والفقه وتفسير القرآن والرياضيات والفلك، ثم مال لدراسة الطب ، وقد ألف 200 كتاباً في مواضيع مختلفة ، وقد استفاد من كتابات الاسكندر الأفرودويسي وثاسطيوس وشروحهما حول مؤلفات أرسطو ، وكان العلماء العرب يخلطون بين أفلاطون وأرسطو ، وابن سينا استخلص مذهب ارسطو من هذا الخلط، وكانت ماهتاب تريد أن تجمع بين رأي أبقراط وجالينوس ، وتريد أن تكتب حولهما .

كان يملي عليها “حي بن يقظان” حين بدأت أحوال البلاد تضطرم وتلوح في سماواتها نذير الحرب، ورحلت ماهتاب إلى همذان مع أخيها وزوجته.

كان ابن سينا يائساً فما هي الفائدة من أن يكتب في الحكمة والمنطق والناس يزداد جهلهم وإيمانهم بالخرافة، وبينما يعالج مريضاً يرى أن الحروب تفتك بالمئات، فالخلافة في بغداد امست اسماً بلا رسم، الخلفاء يتنعمون بالملذات في قصورهم، ففي الجانب الشرقي اليويهيون ومن قبلهم السامانيون والآن محمود بن سبك تكين، ناهب الهند، قاتل أخيه، وغزا العزنوي بسيفه الري واستولى عليها وعلى ما حولها بالخديعة، ثم التهم بقية الممالك البويهية تباعاً، فدمّر المكتبات وقتل العلماء، وقد رأى ابن سينا هذه الويلات قبل وفاته في همذان سنة 427 هـ/1047 م.

 يوسف زيدان: مفكر وروائي مصري، حصل على درجة أستاذ في الفلسفة وتاريخ العلوم.  صدر له: أكثر من ستين كتاباً ، ونال جوائز عديدة، نالت روايته عزازيل عدة جوائز، وهذه الرواية مرشحة لجائزة البوكر العربية، ونالت جائزة القائمة القصيرة.

 فردقان “اعتقال الشيخ الرئيس”، دار الشروق، القاهرة 2018، عدد الصفحات 320 صفحة.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فيصل خرتش

فيصل خرتش
فيصل خرتش روائي سوري مُقيم في حلب، حائز على جائزة نجيب محفوظ للرواية عام 1994. صدرت له تسع روايات: موجز تاريخ الباشا الصغير (1990) والتي مُنعت من التداول في سوريا، تراب الغرباء (1994)، أوراق الليل والياسمين (1994)، خان الزيتون (1995)، مقهى المجانين (1995)، حمّام النسوان (2000)، مقهى القصر (2004)، شمس الأصيل (2008)، ودوّار الموت بين حلب والرقة (2017)، إضافةً إلى عدد من المجموعات القصصية، منها: الأخبار (1986)، وشجرة النساء (2002). وله مسلسلان تلفزيونيان، وفيلم سينمائي عن روايته (تراب الغرباء) من إخراج سمير ذكرى وحاز على جائزة أفضل فيلم سينمائي في مهرجان القاهرة عام (2000) وهو عن المفكِّر عبدالرحمن الكواكبي. كما فاز فيصل خرتش، بجائزة الطيب صالح (المركز الأول) عن روايته (أهل الهوى) عام 2018.

شاهد أيضاً

“برلتراس” أو رواية الوعي بجغرافية التشاؤم

هي جغرافيا التشاؤم بالمعنى الذي لا ترقى إليه الكثير من العقول، كون خلفيته تتأسس على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *