آخر المقالات
الرئيسية » رصاص ناعم » قصة قصيرة | مطرٌ حامضيّ «حين خلتُ أنني أنا»

قصة قصيرة | مطرٌ حامضيّ «حين خلتُ أنني أنا»

سامية العطعوط |

(1)

صحوْنا فجأةً، من دون موعد، على رائحة الموت.

على مدخل الحارة العتيقة حارسٌ عجوزٌ يرتدي معطفَه الطويلَ الداكن. يضع طاقيّة ملبّدة على رأسه، ويدخّن سيجارة هيشي. يتكوّم على مقعدٍ قشّيّ مرتجفًا من البرد. يحني رأسَه فوق صدره، وبين الفينة والأخرى يأخذ نَفَسًا من سيجارته. يمدّ بصره بعيدًا خارج الحارة، في محاولة للإمساك بأيِّ دخيل.

الحارة معتمة، وبصيصُ النور الوحيد يظهرُ بين الفينة والأخرى من أعواد الثقاب التي يشعلها.

في الحارة الضيقة، تتراصّ البيوتُ القديمة على الجانبين، بارتفاعاتٍ شتّى من طابق إلى طابقين. تستند الطوابقُ العليا بعضُها على بعض، في تلاحمٍ عجيبٍ كأنها أغصان متشابكة. تكاد لا تميّز أين يبدأ بيت وأين ينتهي. أبوابها الخشبيّة موصدة بمزاليجَ سوداءَ ضخمة.

حين رفع الحارس رأسه ليأخذ نفسًا عميقًا، لمح خيالاتٍ تتراكض في العتمة. نهض عن مقعده بتثاقل، لكنّه لم يتحرّك. كانت قدماه مكبّلتيْن إلى سلاسلَ عميقةٍ في باطن الأرض، سلاسلَ تمتد آلافًا من الأعوام. هبط على مقعده لامباليًا، بينما تحرّكت الخيالاتُ الضخمةُ بحرّيّة. 

(2)

كان الجميع نيامًا، حين نهضتْ كائناتٌ غريبةٌ من سُباتها. بدأتْ تخرج من أمكنةٍ قصيّة، من غياهب غارقةٍ في العمق. وحوشٌ مشعّثةُ الشعر، دميمةُ الوجوه، ضخمةُ الأجساد، تلتمع عيونُها بحمرةٍ داكنةٍ وتشعّ شررًا.

خرجتْ عمياءُ تتدافعُ في الحارة العتيقة، جيئةً وذهابًا. تصطدم بعضها ببعض. تدخل إلى البيوت الهادئة عنوةً، تحمل أجسادَ النائمين بخفّة، وتأخذها إلى الساحة البعيدة. تجزّ أعناقَها، وتعلّقها للريح السموميّة.

(3)

كنتُ مستلقيًا على فراشي مهدودًا من التعب، حين شممتُ رائحة الرعب!

شعرتُ بشيءٍ هائلٍ يتحرّكُ في أعماقي، وكأنّني أنثى على وشك المخاض بعملاق. رأيتُ كائنًا هلاميَّ الملامح يخرج من جسدي. فزعتُ. أغمضتُ عينيَّ خوفًا. شعرتُ به يتحرّك خارجًا. سمعتُ صوتَ أقدامه وهي تدبّ على الأرض، فيهتزّ السريرُ والسقفُ والهواءُ بعتمته. ابتعدَ عنّي قليلًا. فتحتُ عينيَّ نصفَ فتحة: كان كثَّ الشعر واللحية، منتفخَ الوجه، دميمَه، تبرز منه انبعاجاتٌ شتّى، كفقاقيعَ لحميّة. عيناه حمراوان، تشعّان شررًا ورعبًا. بدأ يتلمّسُ طريقَه نحو الخارج بكفيّْن ضخمتيْن. أغمضتُ عينيَ على الرعب. سمعتُه يخرجُ من الباب ويبتعد بهدوء.

لم أصدّقْ ما رأيتُ. تناولتُ كوب ماء من جانبي. شربتُ، سال الماء على جسدي كأنّ حلقي مثقوب. فركتُ عينيّ، قرصتُ جسدي الهزيل، لم أجد موضعًا للّحم فيه. لمستُ بأصابعي عظامَ الوجنتين. لم أستطع أن أحدّد هل أنا في حلم أم يقظة. العتمةُ تأكلُ الفراغَ، والخوفُ يأكُلني.

أسمعُ صراخًا في الخارج. صرخات تمزّق ستارَ الليل بسكاكينَ حادّة، وروحي كذلك. حاولتُ النهوض؛ مهمّة شبه مستحيلة. تراجعتُ نحو النوم.

(4)

في الصباح نهضتُ من فراشي. شعرتُ بصداع شاقولي. اغتسلتُ وارتديتُ ملابسي. وجهي في مرآة الحمام، صافٍ تعلوهُ مسحةٌ من إيمان. خرجتُ من البيت، تتعثّر قدماي بخيالي. الحارة هادئة، ومعتمة كما هي ليلَ نهار.

عند المدخل، كان الحارس يجلس على كرسيّه المعتاد، يدخّن سجائره المعتادة. وفي الخارج، في الساحة، كان المنظر المهول، البشع، المثير للرعب والاشمئزاز، مألوفًا!

كانت سبعةُ أجسادٍ، متفاوتةِ الطول والوزن واللون والقسمات، معلّقةً على مقصلة كبيرة، مشرعةً للرياح والأتربة، لحرارة الشمس التي تقدّد اللحم، للمطر الحامضيّ الذي ينحت الوجوه.

تحرّك شيءٌ ما في أعماقي. كأنّني رأيتُ هذا المشهد من قبل. كأنّني لمستُ بعض هذه الأجساد مفعمةً بالحياة. كأنّني رأيت وجوههم الفزعة وأنا أجزّ أعناقَهم بخفّةِ حاوٍ.

كأنّني الوحشُ الذي اصطادهم على حين سُبات!

قاصة وروائية أردنية | مجلة الآداب

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

في حضرة الغياب

وحدهم أولئك الذين يتقنون فن الغياب قد فهموا لعبة الحياة، فلا تنفك هي تبحث عنهم …