الرئيسية » حوارات » إدغار موران: تمثِّل فترة مابعد الوباء مغامرة يكتنفها الغموض.

إدغار موران: تمثِّل فترة مابعد الوباء مغامرة يكتنفها الغموض.

ترجمة : سعيد بوخليط  |

تقديم: في حوار مع جريدة لوموند،اعتبر الفيلسوف وعالم الاجتماع إدغار موران، بأن السباق نحو الربح وكذا جوانب القصور التي تميز أفكارنا،تعود لهما مسؤولية وقوع العديد من الكوارث البشرية التي تسبب فيها وباء كوفيد 19 .

يعتبر هذا المقاوِم السابق، السوسيولوجي والفيلسوف، المزداد سنة 1921،صاحب فكر متعدد الاختصاصات يسمو فوق كل تصنيف،مُنح دكتوراه فخرية من طرف أربع وثلاثين جامعة عالمية.

إدغار موران، قابعا في منزله بمدينة مونبوليي، منذ السابع عشرة من شهر مارس، رفقة زوجته صباح أبو السلام المختصة بدورها في علم الاجتماع.

ـ هل كان متوقعا وباء، على طريقة كورونا؟

ـ لقد انهارت جلّ التوقعات المستقبلية خلال القرن العشرين التي أسقطت على  المستقبل تلك التطورات التي يجتازها الحاضر.مع ذلك، تواصل التنبؤ فيما يتعلق بسنتي 2025 و2050 في حين نبدو عاجزين عن فهم ما يجري  سنة 2020 . بحيث رفضت الضمائر الاعتقاد بتدفقات التاريخ غير المتوقعة.بينما، ظل قدوم الطارئ متوقعا، دون إمكانية تحديد  نوعيته. من هنا، قناعتي الدائمة :”أنتظرُ اللامتوقع”. أيضا، انتسبت إلى زمرة الأقلية التي تنبأت بكوارث متسلسلة نتيجة إطلاق العنان الجامح للعولمة التقنية- الاقتصادية، وما تؤدي إليه من اختلالات المحيط الحيوي ثم تدهور المجتمعات.مع ذلك، لم أتوقع أبدا كارثة مصدرها فيروس : أتذكر ندوة صحفية عقدها بيل غيتس، شهر 2012  ،أكد من خلالها بأن الخطر المباشر المهدد للبشرية ليس نوويا،بل صحيا. وقد تبيَّن في وباء أيبولا، الذي أمكن حينذاك السيطرة عليه سريعا بضربة حظ،إعلانا عن خطر فيروسي قادم، تميزه عدوى قاتلة،  موضحا بهذا الخصوص طبيعة المقاييس الوقائية الضرورية، لاسيما إلحاحية التجهيزات الاستشفائية.مع ذلك، ورغم الإنذار العمومي لبيل غيتس، لم تتم المبادرة إلى القيام بأي شيء سواء داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها، لأن الاطمئنان الفكري والرتابة يرتابان من أي رسالة تعكر صفوهما.

ـ كيف تفسرون عدم استعداد فرنسا؟

ـ بالنسبة لكثير من البلدان، ضمنها فرنسا، فالإستراتجية الاقتصادية القائمة على مبدأ الإنتاج الظرفي، تعوض الأخرى المهتمة بالتخزين، سياق جعل الجهاز الصحي، مفتقرا إلى الكمامات، ووسائل إجراء الاختبارات، والأجهزة التنفسية، هذا يعود إلى النظرية الليبرالية التي تتعامل مع المستشفى وفق منطق تجاري، بالتالي التقليص من الإمكانيات المخصصة إليه ساهم في تكريس المسار الكارثي للوباء.

ـ أمام أي نوع من الطارئ وضعتنا هذه الأزمة؟

ـ لقد جاءنا هذا الوباء بمهرجان من اللا-يقينيات.لسنا متيقنين من مصدر الفيروس: سوق في مدينة ووهان الصينية يفتقر للشروط الصحية أو ربما مختبر مجاور له، لذلك لانعلم سبل التحولات التي يخضع لها الفيروس أو احتمالاتها إبان فترات انتشاره. أيضا لانعلم متى سيتراجع الوباء أو إمكانية بقائه مستوطنا. كذلك لانعلم قط، إلى أي حد سيجعلنا العزل الصحي نكابد موانع، وقيودا، وتقنينات ثم مستويات ذلك.في نفس  الآن، يصعب علينا، الإحاطة بالمآلات السياسية، الاقتصادية، الوطنية والكونية لتلك القيود التي انطوت عليها إجراءات العزل الصحي.أخيرا،لا نعلم إن كان ينتظرنا الأسوأ، أو الأفضل، أو مزيجا بينهما: جراء مختلف ذلك، نحن بصدد الاتجاه نحو لايقينيات جديدة. 

ـ هل تشكل هذه الأزمة الصحة العالمية أزمة مركَّبة؟

تتضاعف المعارف بكيفية مطَّردة ، فجأة، تتجاوز قدرتنا على التأقلم، وتطرح خاصة أمامنا تحدي البعد التركيبي: كيف نجابه، نختار، ثم ننظم هذه المعارف بطريقة ملائمة بحيث نعيد الارتباط بينها ثم ندمج اللايقين.بالنسبة إلي، يكشف هذا مرة أخرى عن جوانب ضعف المعرفة المترسِّخة لدينا، التي فصلت بين المتلازم واختزلت إلى عنصر واحد مايشكل أساسا كلاًّ، يعتبر في الآن ذاته واحدا ومتعددا.فعلا، فالإيحاء الفجائي للاضطرابات التي نختبرها أن مختلف مايبدو منفصلا  استعاد أواصره ثانية، مادام أنَّ كارثة صحية مست على التوالي بكيفية كارثية مجموع ماهو إنساني.مأساوي،امتثال حضارتنا للفكر القائم على الانفصال والاختزال بهدف تلبية الاحتياجات السياسية والاقتصادية. أدى هذا الخلل الرهيب إلى اقتراف أخطاء على مستوى تقدير المواقف، وكذا التقدير، من ثمة اتخاذ قرارات ضالة.أضيف بأن هاجس المردودية عند المهيمنين والمشرفين على شؤوننا انتهى إلى اقتصاديات مذنبة كما الشأن بالنسبة للمستشفيات والتخلي عن إنتاج الكمامات في فرنسا. أعتقد، بأن جوانب القصور على مستوى أسلوب تفكيرنا ثم ارتباطا بسيطرة تعطش جامح إلى  الربح، تعتبر مسؤولة عن كوارث بشرية عديدة منها التي نعيشها منذ شهر فبراير 2020.

ـ سادت لدينا رؤية موحَّدة حول العلم.بينما،سنلاحظ أنه صار حقلا لتضاعف السجالات والجدالات حول الأوبئة.

ـ هل أضحى الطب البيولوجي حقلا جديدا للمعركة؟مسألة أكثر من شرعية إذا استدعت السلطة العلم لمقاومة الوباء. بداية، أحس المواطنون بالطمأنينة، بمناسبة العلاج  المقترح من طرف البروفيسور راوول ديديه، غير أنهم  تأرجحوا بعد ذلك بين آراء مختلفة بل متباينة. في حين اكتشف مواطنون مطلعون جدا بأن بعض العلماء الكبار تحكمهم علاقات نفعية مع صناعة الأدوية وبالتالي قدرة لوبياتها القوية القريبة من الوزارات ووسائل الإعلام، على توجيه حملات انتخابية صوب تبخيس الأفكار غير الملائمة لتوجهاتها. لنتذكر البروفيسور لوك أنطوان مونتانيي، الذي سار على غير هدى أساقفة وأرباب العلم،فاستطاع إلى جانب آخرين من اكتشاف فيروس السيدا(VIH). يشكل الوضع الحالي مناسبة كي ندرك بأن العلم ليس ذخيرة لأحكام مطلقة (بخلاف الدين) لكن نظرياته قابلة للتحلُّل نتيجة اكتشافات جديدة. فالنظريات المسلَّم بها تنزع نحو أن تغدو دوغماطيقية من خلال المؤتمرات الأكاديمية، لذلك يدين العلم بفضل تطوره إلى  علماء غير منضبطين، من باستور وصولا إلى أينشتاين مرورا بداروين، وفرانسيس كريك صحبة جيمس واطسون مكتشفي الشكل الحلزوني للحمض النووي.فالجدالات أبعد من  كونها تشد عن القاعدة، تعتبر ضرورية لهذا التقدم. أيضا، تبعا لأفق غير معلوم ،يعرف كل شيء طريق تقدمه من خلال المحاولات والأخطاء وكذا اكتشافات تجليات انعطافات تُستبعد بداية مادامت غير مفهومة.هكذا مسار المغامرة العلاجية ضد الفيروس.ستظهر أدوية هنا وهناك، حيث لم نكن ننتظرها قط.ذلك أن العلم قد أضرَّ به الإفراط في التخصص،مما شكَّل انغلاقا وتفتيتا لمعارف متخصصة عوض أن تتواصل فيما بينها.وخاصة باحثين مستقلين أقاموا منذ بداية الوباء تعاونا توسع حاليا بين المختصين في الأمراض التعفنية وأطباء من مختلف دول العالم.يعيش العلم بفضل تبادل الأفكار،بينما تكبح انطلاقته كل رقابة.أيضا،يلزمنا تأمل مظاهر سمو العلم المعاصر وفي ذات الوقت جوانب ضعفه.  

ـ ضمن أي نطاق يمكننا الاستفادة من الأزمة؟

ـ في دراستي عن الأزمة(منشورات فلاماريون)،حاولت توضيح بأنه خلف أزمة معينة، وبين طيات ماتنطوي عليه من خلخلة وتقلب، ينكشف عجز ضوابط نظام سيلجأ في المقابل بهدف المحافظة على استقراره إلى إعاقة أو كبت الانعطافات.لذلك،عندما يتوقف التصدي لها  تصير نزوعا حيويا، تهدد أكثر فأكثر، بأن تخلق اختلالا يحاصر النظام المأزوم. مع الأنظمة الحيوية وخاصة الاجتماعية، يصبح التطور المنتصر للانعطافات اتجاها يقود صوب تحولات، ارتدادية أو تصاعدية، وربما ثورة. تبعث الأزمة داخل مجتمع مسارين متناقضين. الأول يثير الخيال والإبداعية في إطار البحث عن حلول جديدة.أما الثاني فيكمن في البحث عن عودة إلى استقرار سابق، سواء بالانخراط في سياق خلاص سماوي، عبر توجيه التهمة إلى مذنب أو التضحية به. ربما اقترف الأخير أخطاء أحدثت الأزمة، أو يُتخيل وجود هذا الآثم،ثم تقديمه ككبش محرقة يلزم استبعاده.فعلا،أفكار زائغة وهامشية تتدفق  على نحو شذر مذر: العودة إلى سيادة دولة الرعاية الاجتماعية،الدفاع عن المرافق العمومية ضد الخوصصة،إعادة التمركز، التصدي للعولمة،مناهضة الليبرالية المتوحشة،وكذا ضرورة تبني سياسة جديدة.تتحدد شخصيات وإيديولوجيات باعتبارها مذنبة.أيضا سنلاحظ نتيجة ضعف عمل السلط العمومية، فيض خيال متضامن: مقابل نقص الكمامات، يتم اللجوء إلى استعادة وضع سابق بإحياء الحِرَف التقليدية، تجمع منتجين محليين، تسليم مجاني للبضاعة في عين المكان، تبادل المساعدات بين الجيران، تقديم وجبات مجانية لمن لامأوى لهم، الاهتمام بالأطفال، ينعش الحجر الصحي أكثر مؤهلات التنظيم الذاتي، جراء انعدام حرية التنقل، والمداواة بالقراءة، الموسيقى، والأفلام. إذن، تحت وطأة الأزمة تنتعش الإبداعية والاستقلال الذاتي.  

ـ هل يعيش العالَم لحظة وعي حقيقي  بالوضع الكوني؟

ـ أتمنى أن يمنحنا الاستثنائي في ظل الوباء القاتل، الذي نعيشه ،وعيا ليس فقط كوننا مضينا صوب قلب هذه المغامرة الإنسانية المدهشة،بل أيضا يحتوينا عالم مريب وتراجيدي في الآن ذاته.لقد أدى الاعتقاد بأن التنافس الحر والنمو الاقتصادي يشكلان  مخرجا سحريا اجتماعيا للتمويه عن تراجيدية التاريخ الإنساني والتي  تفاقمت نتيجة قناعة من هذا القبيل. الجنون الحماسي نحو أفق مابعد الإنسانية، ارتقى إلى الأوج بأسطورة الضرورة التاريخية للتقدم وكذا سيطرة الإنسان ليس فقط على الطبيعة، بل مصيره أيضا، في إطار التنبؤ بأن الإنسانية ستبلغ الأبدية وتتحكم في كل شيء بفضل الذكاء الاصطناعي. والحال، أننا مؤثِّرين/ متأثرين، مالكين/مملوكين، أقوياء/ضعفاء. إن أمكننا مثلا تأخير الموت بالتقدم في السن، فيستحيل بالنسبة إلينا خلال الآن ذاته استبعاد الطوارئ القاتلة التي تهشم أجسادنا،أو التخلص من جراثيم وفيروسات قادرة على التحول باستمرار ذاتيا كي تقاوم العلاجات، والمضادات الحيوية ومضادات الفيروسات، والتلقيحات.

ـ ألم يفاقم الوباء الانكفاء العائلي وكذا الانغلاق الجيوسياسي؟

ـ تداعت شرارة الفيروس عالميا،فأحدثت لدينا أزمة صحية بشكل مرعب،فرضت تطبيق إجراءات العزل الصحي،أدت ضمنيا إلى خنق للاقتصاد،وكذا التحول من أسلوب  حياتي منفتح على الخارج إلى انطواء ذاتي داخل المنزل،مثلما وضع العولمة ضمن سياق  أزمة عنيفة.سبق للأخيرة، أن أرست علاقات مترابطة لكن دون استنادها على التضامن.بل خلقت الأسوأ، جراء ردود الفعل، انكفاء حول الإثني، الوطني، الديني، اشتدت مظاهرها خلال العقود الأولى من هذا القرن.لذلك،غياب التقدير الجيد لدى المؤسسات الدولية ومنها الأوروبية بخصوص تفعيل تضامن عملي،خلق توجها لدى الدولة الوطنية بالتمركز على ذاتها. تابعنا بالمناسبة،كيف أسرعت الجمهورية التشيكية إلى سرقة شحنة كمامات كانت في طريقها نحو إيطاليا،أيضا اختلست الولايات المتحدة الأمريكية لصالحها مخزونا من الكمامات الصينية، متوجهة أصلا إلى فرنسا.بناء عليه، أطلقت الأزمة الصحية العنان لتداعيات أزمات متسلسلة.تشمل هذه الأزمة المتعددة أو الهائلة،الوجودي وصولا غاية السياسي مرورا بالاقتصاد،ثم من الفردي إلى الكوني مرورا بالعائلات، والأديان، والدول. عموما، كيف أن فيروسا ضئيلا  انطلق من حاضرة مجهولة خلق ثورة في العالم.  

ـ ماهي  حدود هذه الاختلالات العالمية؟

ـ باعتبارها أزمة كونية، فقد أبرزت وحدة المصير البشري في ارتباط متلازم مع المصير الحيوي- البيئي لكوكب الأرض؛ مثلما تطرح بزخم  أزمة إنسانية عجزت عن التحقق بناء على هويتها الإنسانية. باعتبارها أزمة اقتصادية، فقد زعزعت مختلف الدوغماطيقيات التي تحكم الاقتصاد كما أنها تنطوي على تهديد بجعل مستقبلنا عرضة للفوضى والفاقة. باعتبارها أزمة وطنية، فإنها تبرز جوانب قصور سياسة فضلت الرأسمال على حساب العمل، كما ضحت بالجانب الوقائي وكذا الاحتراس كي تركز جل اهتمامها على المردودية والتنافسية.باعتبارها أزمة اجتماعية، فقد سلطت ضوءا ساطعا على التباينات بين الذين يعيشون داخل منازل صغيرة آهلة بالأطفال والآباء، ثم من بوسعهم الفرار نحو إقامتهم الأخرى المتواجدة في الريف.باعتبارها أزمة حضارية، فإنها تقودنا صوب إدراك فشلنا فيما يتعلق بالتضامن وكذا جوانب التسمم الاستهلاكي الذي طورته حضارتنا، وتقتضي منا التفكير في سياسة للحضارة(أستحضر هنا كتابي سياسة للحضارة بالاشتراك مع سميع ناير، منشورات أرليا 1997). باعتبارها أزمة فكرية، فيجدر بها أن تكشف لنا الثقب الأسود الضخم لذكائنا، الذي يحجب عنا تعقيدات الواقع. باعتبارها أزمة وجودية، تجبرنا على مساءلة نمط حياتنا، واحتياجاتنا الحقيقية، وكذا طموحاتنا المقنَّعة بين طيات استيلاب الحياة اليومية،التمييز بين التسلية كما شرحها باسكال التي تحول مسارنا عن وجهة حقائقنا ثم السعادة التي نصادفها حين القراءة، أو متابعة الأعمال الرائعة أو إرهاف السمع لها،بحيث تجعلنا نعاين وجها لوجه مصيرنا الإنساني. ثم يلزمها خاصة، تحرير أذهاننا السجينة منذ عهد طويل عند إطار محددات العاجل، والثانوي وكذا التافه، على حساب الجوهري: الحب والصداقة بهدف تحقيق تكاملنا الفردي، وكذا الوحدة والتضامن بين “الأنا”مع ال”نحن”،ومصير البشرية بحيث يمثل كل فرد حلقة ضمن ذلك.إجمالا،يلزم لهذا الانعزال الجسدي أن يفسح المجال في المقابل لانطلاق العقول.

ـ مامعنى هذا الحجر لدواعي صحية،وكيف تعيشونه؟

ـ يعتبر فرض تجربة مستمرة للحجر الصحي داخل البيت على وطن،مسألة غريبة.لقد سمح العزل في غيتو فارسوفيا للساكنة بالتنقل ضمن مساحته المنغلقة. الإبقاء داخل غيتو يهيئ للموت، في حين ما يحدث للبشرية حاليا يمثل دفاعا عن الحياة.فيما يتعلق بي، أعيش هذه التجربة ضمن إطار ظروف مميزة، منزل يتضمن طابقا أرضيا  يشرف على حديقة، حيث يمكنني الاستمتاع بدفء أشعة الشمس مع حلول فصل الربيع محفوفا برعاية فائقة من طرف زوجتي صباح، وإلى جوارنا جيران رائعون يتكفلون بدل عنا بمهمة التبضُّع، ثم التواصل مع أقاربي، أحبائي، أصدقائي، وكذا دعوات الصحافة، والراديو والتلفيزيون كي أدلي بوجهة نظري الشخصية، وهو ما أبادر إليه عبر تقنية السكايب.في ذات الآن، استحضرت منذ الوهلة الأولى واقع ضحايا هذا الحجر الصحي، كما الشأن بالنسبة للأسر ذات الأعداد الكبيرة  التي تؤويها منازل ضيقة بحيث يشكل هذا الاكتظاظ معاناة.أيضا أفكر في الذين يعيشون فرادى منعزلين والمتشردين.

ـ ماهي النتائج الممكنة لحجر صحي طويل؟

ـ أدرك بأن حجرا صحيا مستمرا،سيُختبر أكثر فأكثر باعتباره عائقا.فالفيديوهات لايمكنها على المدى الطويل تعويض الذهاب إلى السينما، ولايمكن للوحات الاليكترونية أن تحل دائما محل زيارة المكتبات،مثلما أن تقنية السكايب أو الزوم، لاتشعرنا فعليا بالتواصل الجسدي ورنين الأقداح قبل ارتشاف شرابها.الأكل المنزلي مع روعته، لايلغي رغبة الذهاب إلى المطعم. والأفلام الوثائقية لاتشفي الغليل نيابة عن التنقل لمعاينة المناظر الطبيعية، والمدن والمتاحف، فلا تنزع رغبة السفر إلى إيطاليا أو إسبانيا.فالاكتفاء بالضروري يخلق أيضا  هذه الرغبة  في الزائد عن الحاجة، أتمنى أن تؤدي تجربة العزل الصحي إلى التخفيف من هاجس الأسفار،كالإسراع نحو بانكوك لمجرد الرجوع بحزمة حكايات تروى للأصدقاء، أتمنى أن يساعد على التقليل من الاستهلاك وبمعنى ما،التسمم الاستهلاكي جراء الإذعان للتحريض الإشهاري،والالتفات نحو أغذية صحية ولذيذة،منتجات متينة وليست تلك القابلة للتلف السريع. طبعا، تلزم دوافع ومستويات جديدة للوعي حتى تتحقق ثورة في هذا المجال.مع ذلك،هناك أمل بأن التطور البطيء بدأ يسرع.

ـ كيف سيكون بحسبكم، ما بدأنا ننعته ب”عالم مابعد الوباء”؟

ـ أولا، ماالذي سيحافظ عليه المواطنون، ثم ماالذي ستبقي عليه المؤسسات العمومية من تجربة الحجر الصحي؟ جانب فقط؟ أم سيتم نسيان كل شيء،تخدير أم فلكلرة؟ المسألة المحتملة جدا أن انتشار المنظومة الرقمية، وقد اتسعت رقعتها في خضم الحجر الصحي(ممارسة العمل عن بعد، إلقاء محاضرات بواسطة جهاز السكايب، استعمال مكثف للأنترنيت)ستتواصل بجوانبها سواء السلبية والايجابية،لامجال للحديث بتفصيل عن ذلك في حوارنا هذا. ثم نصل إلى الأساسي، من خلال طرح التساؤل التالي: هل يشكل الخروج من الحجر الصحي بداية انتشال ذواتنا من الأزمة أو على العكس تكريس لها؟ انبعاث أو انهيار؟ أزمة اقتصادية مهولة؟ أزمة غذائية عالمية؟ استمرار العولمة أو انكفاء على الذات؟أي مستقبل ينتظر العولمة؟ وهل النيو-ليبرالية التي تعرضت للاهتزاز ستعاود ثانية الإمساك بالمقود؟ هل ستبدي الدول القوية مقاومة أكثر مما فعلت سابقا؟ هل ستتفاقم النزاعات المسلحة التي خفت وطأتها إبان الأزمة؟ هل سيحدث تطور سياسي، اقتصادي، واجتماعي كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية؟هل يتواصل ويتعزز تيقظ الحس التضامني كما أثاره الحجر الصحي، ليس فقط بالنسبة للأطباء والممرضين،لكن أيضا الفريق الذي شكل  دعامة خلفية للموجودين عند مقدمة تسلق الجبل،أقصد تحديدا عمال النظافة، ناقلي البضائع، الصرافين، فبدون هؤلاء لم يكن في مقدورنا الاستمرار، ولايمكننا بالتالي القفز عن خدمات”جمعية أرباب العمل الفرنسي” وكذا ”مؤشر كاك(40)”؟ هل يتركز أكثر فأكثر تبعثر وتعدد ممارسة تضامنية شتى عايناها قبل الوباء؟ هل يستعيد من جديد المغادرون لفضاءات العزل الصحي دوامة الجدول الزمني السريع،لاتتوقف معه أنفاس الأنانية،والاستهلاك؟ أم يحققون انطلاقة مغايرة بخصوص حياة تشاركية وجذابة نحو حضارة يتسع مجالها لشعرية الحياة، حيث تتفتح في إطار”نحن”؟يصعب معرفة إن كانت الخطط والأفكار الحداثية ستجد اندفاعها، بعد فترة الحجر الصحي، يعني تثوير السياسة والاقتصاد أو أن الوضع المهتز حاليا سيأخذ المبادرة مرة أخرى.يمكننا الإحساس بفزع قوي  نتيجة الارتداد العام الذي حدث سلفا خلال عشرين سنة الأولى من هذا القرن(أزمة الديمقراطية،الفساد، انتصار الديماغوجيات، أنظمة سلطوية جديدة،نمو القوميات، التي تكره الأجانب والعنصرية).مختلف هذه الارتدادات(أو  بالأحرى ركودا)تظل محتملة إذا لم يتبلور مسار سياسي جديد بيئيا، اقتصاديا، اجتماعيا يهتدي بنزعة إنسانية متجددة ترفع من إيقاع إصلاحات حقيقية، تتجاوز منطق الميزانيات، وتتعلق بالحضارة، والمجتمع، والحياة. إصلاحات تجمع بين مفاهيم متباينة: ”العولمة”(كل مايخص جوانب التعاون)ثم “اللا-عولمة”(فيما يتعلق باستتباب استقلالية تتعلق بإنتاج مواد غذائية صحية وإنقاد مناطق التصحر)ثم “النمو” (اقتصاد الحاجات الأساسية،وبخصوص الدائم،وكذا فلاحة الضيعة أو الطبيعية)ثم “انحدار”(اقتصاد التافه، والوهمي،وغير القابل للصيانة)، ثم “التطور”(جل مابوسعه إنتاج اقتصاد الرفاه، الصحة، الحرية) ثم ”التطويق”(الإبقاء على أواصر روابط التضامن المشتركة).   

ـ تعرفون الأسئلة الكانطية: ماذا يمكنني أن أعرفه؟ ماذا بوسعي القيام به؟ما المسموح لي التطلع إليه؟ ما الإنسان؟ فأيّ منها شغلت حياتكم وستظل كذلك. ثم ما الموقف الإتيقي اللازم تبنيه أمام الطارئ؟

ـ يشكل مابعد الوباء مغامرة غامضة بحيث تتطور جنبا إلى جنب قوى الأسوأ وكذا الأفضل،لكن الأخيرة لازالت ضعيفة ومبعثرة. علما في نهاية المطاف بأن الأسوأ ليس مؤكدا،وماهو بعيد الاحتمال قد يحدث، ثم في خضم المعركة الجبارة، المتعذر إخمادها بين العدوين المتلازمين الإيروس و التاناتوس، يعتبر سليما وجوهريا الانحياز إلى جانب الإيروس.  

ـ أصيبت والدتكم السيدة لونا Luna بوباء الأنفلونزا الإسبانية. وقد أشرتم إلى هذه الصدمة التي تعود لفترة ماقبل الولادة في افتتاحية كتابكم الأخير، تنزع نحو تبيان كيف أنها منحتكم قوة على تحمل الحياة،وكذا قدرة عجيبة على مقاومتها.هل تشعرون دائما بهذه الدفعة الحيوية في ظل هذه الأزمة العالمية؟

ـ أحدثت الأنفلونزا الإسبانية لدى أمي خللا في القلب وكذا إلزاما طبيا بعدم إنجاب أطفال. أجهضت مرتين، لكن فشلت المحاولة الثانية،حيث ولد طفل شبه مختنق بحبل السرة، بالتالي ميتا تقريبا. ربما اكتسبتُ داخل الرحم أسباب المقاومة التي استمرت معي طيلة حياتي،لكن لم يكن بوسعي البقاء حيا سوى بمساعدة الآخر، أقصد طبيب الولادة الذي صفعني نصف ساعة قبل أن أطلق صرختي الأولى، أيضا انحاز إلي جانبي الحظ خلال فترة المقاومة، ثم فترة علاجي في المستشفى(الالتهاب الكبدي، السل)بوجود صباح، رفيقتي وزوجتي. حقا لم يغادرني”الوثوب الحيوي”؛بل اشتد زخمه خلال الأزمة العالمية. تثيرني كل أزمة، والأزمة الحالية، بفداحتها، هزت كياني بقوة.  

 مرجع الحوار :    
Le Monde:19 – 04- 2020

المغرب | مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *