الرئيسية » الرئيسية » التيه داخل الهوية

التيه داخل الهوية

فوبيا اللاهوية تلاحق من لا يجدون إلى هويتهم سبيلاً، مراكمين عنفاً يتمظهر في أدائهم اليومي، فسؤال الهوية وهو سؤال حديث بالضرورة، يحتاج بإلحاح الى إجابة واضحة وعلانية ومنظمة عقلانياً، والأهم أن يكون معاصراً، فالهوية مسألة متعلقة بشدة بغريزة البقاء، وهي غريزة حيوانية بالأساس، وعلى الكائن البشري أن يؤنسنها ويرتبها بما أوتي من عقل، والعقل هو نتاج تراكم ما سبق من معرفة حتى اللحظة الآنية. بمعنى أن العقل يرتقي سلباً أو إيجاباً مع كل مرحلة من مراحل الحادث المعرفي، فالبشر قبل هذا الحادث (الحادث المعرفي مهما كان) هم غير البشر بعده، فالحادث المعرفي يقدم إجابات على أسئلة كانت مطروحة، والتغير بسبب هذا الحادث يؤدي الى أسئلة جديدة، فالبشر لا يعودون نفسهم ،بسبب إضافة معرفة جديدة لهم، وهنا يتبدى التراتب الحضاري /المعرفي، فالفوبيا الناتجة عن عدم القدرة (العقم) على صياغة وترجمة الهوية، تتحول الى عنف تبسيطي ذرائعي ومباشر أي الى عنف همجي، يستل الأجوبة على سؤال العنف والهمجية من تحت إبطه محملاً الآخر ذنب محاولة إفنائه، لتتحول الهوية وسؤالها وفوبياها، إلى غيتو معرفي، مسيجاً بعنف مقدس، مشهراً غريزة البقاء كذريعة للدفاع عن الهوية.

الكثيرون تناولوا مسألة الهوية هذه، وغلب على تناولهم المناورة والمواربة، منهم من ناقشها كبدهية البدهيات مفضلاً إياها على كل هويات الآخرين، ومنهم من تعمق قليلاً، فاتحا فجوة في سياجها الشائك، طارحاً موضوع تنوع الهويات وتداخلها وتشابكها التناسلي الدمويس والمعرفي الفلكلوري، ومنهم من رفضها رفضاً أممياً إنسانوياً بغض النظر عن موقعه المعرفي من هذه الإنسانوية.

غريزة البقاء والدفاع عن الذات هو لب مسألة الهوية، كمقولة ابتدائية مارستها البشرية منذ وجودها، وتطورت مع تتالي الحوادث المعرفية، لتأخذ أشكالاً متنوعة ومتغيرة حسب ثقافة المكان والزمان المفروضة، فكان الغزو، والإحتلال، والقرصنة، والمستعمرات، وإلى ما هنالك من فعاليات تفترضها المعرفة، ومع أن كل هذه الفعاليات صنعت تداخلاً هوياتياً، سلالياً ومعرفياً، وأخرجت واقعاً حضارياً مختلفاً، لجأ هذا الواقع إلى ممارسة غريزة البقاء والدفاع عن الذات الجديدة، ما فسر لاحقاً بالهوية المعبر عن واقع الحال الاجتماعي .

لم يتطرق هؤلاء الكثيرون الذين ذكرناهم من متناولي الشأن الهوياتي الى الهوية كمصلحة بشرية، بل حافظوا عليها كرابطة روحية أو فكرية دون تجسيد يذكر، اللهم إلا في وعدهم بالإنتصار على (آخر) في حال تم تطبيق رؤيتهم للهوية وممارسة استحقاقاتها النظرية، ولكن الهوية كانت قد أصبحت في مقلب آخرتماماً، حيث أن غريزة البقاء أصبح لها شكل ومضون مختلف، تركز حول الإنتاج وممارسته والدفاع عنه والمنافسة به وحسن توزيعه، عند هذه النقطة يمكن تكثيف مسألة الهوية المعاصرة، وهي ليست نظيفة ومعقمة ويوتوبية، بل هي واقع معاش فيه كل أنواع المهارات السياسية والأخلاقية والإحترافية من التجارة والصناعة، إلى الحروب الإستعمارية الغاشمة، لتصبح الهوية واقعاً معاشاً وليست مجرد أحلام عن تمايز ما بصفة أو فلكلور أو تراث ما.

قل ماذا تنتج (تبدع) أقول لك من أنت، أي اعترف بهويتك وتمايزك واحسب حساباً لمصالحك، وأقدر تنافسيتك، كما أنني على استعداد للدخول في حرب معك عندما تصطدم مصالح إنتاجنا دفاعاً عن وجودي المنتج. هنا على هذا المفترق  تقبع الهويات، فالهوية هي إعلان وجود موجه إلى آخرين، والعصر يفرض الإنتاج كإعلان عن الوجود، وما على أصحاب الوجود الفيزيائي من دون إنتاج اللجوء الى شرعة حقوق الإنسان والشكوى اليها، أو إعلان حرب على الآخر المنتج بالطريقة والوسائل التي تتيحها لهم ما تعرضوا له من حوادث معرفية.

في هكذا نوعية من الأقوام، تقوم الملكية مقام الإنتاج، فما تمتلكه يعبر عن بقاءها أو هويتها لا فرق! والحوادث المعرفية التي توقفت عندها ولم تتغير بعدها  (أي ثقافتها) هي جزء أساسي من هذه الملكية، وهي ما يجعل لها مسرباً وحيداً بناء على المعرفة الدافعة للسلوك، وهو مسرب الغزو، والغزو بطبيعته لا يحتاج إلى سبب فهو جزء من الثقافة، وهو تعبير عن غريزة البقاء، بحيث يتحول الآخر أي آخر وكل آخر، عرضة لممارسة هذا الحق الطبيعي عليه مفترضاً أن الآخر يمتلك ذات الثقافة، وهذا ما يجعل هذه الأقوام على قناعة أنهم في مرتبة حقوقية أعلى من أي آخر وعليهم غزوه، وهنا يجب أن نلاحظ أنه ومع تراكم الحوادث المعرفية المتنوعة التي مرت على البشرية، أصبح من الضرورة إيجاد ذريعة لقتل الآخر (غزوه )، ولكن المرتبة الحضارية لهكذا أقوام لم تصل الى موضوع الإنتاج ومستحقاته، فلجأت الى شيطنة الآخر، مجيشة كل منظومات التكاره البدائية، مطنشة الظلم الإستعماري ومستحقاته في بناء الإنسان واستثماره في الإنتاج للوصول الى إعلان الهوية ليس كحدث مثل (عيد الجلاء) بل كممارسة حياتية في الواقع المستمر، وربما لحظنا كم الإحتقار الذي نكنه للعمل كقيمة إجتماعية، وما ينجز هذا الإحتقار من مكونات اللاهوية، المصابون بفوبياها.

وأخيراً …من نحن؟

نعم نحن بشر موجودون فيزيائياً على إقليم لا نستطيع تسميته أو توصيفه، أو …. أو الخ ..لأنه وببساطة لا ننتج شيئاً.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن نجيب نصير

نجيب نصير
كاتب وسيناريست سوري عريق، كتب العديد من المسلسلات السورية التي لاقت إقبالاً كبيراً، تمتاز أعماله بطابع خاص، ومن أبرزها: نساء صغيرات، أسرار المدينة، الانتظار، تشيللو، فوضى، أيامنا الحلوة، وغيرها.

شاهد أيضاً

الأديب إبراهيم الخليل: الأدب في سوريا ذكوري بامتياز!

حوار: عبد الرزاق العبيو  | إبراهيم الخليل، أحد أهم الأسماء الأدبية في سورية، وُلد في …