آه يا صاحبي كم صنعنا من خيالنا سفن فضاء؟ وكم اخترعنا في أحلامنا نوقاً مجنحة؟ وكم اقتفينا خطا البسوس؟ وكم بصرنا بالفناجين لكي تفتح خرائط الإدريسي طلاسمها فنعرف الطريق إلى الهفا ..
الهفا يا صاحبي …. مكان عجزت عن تحديد موقعه كل تقنيات المسح الجغرافي الحديثة.. والأقمار الصناعية، ومنجمات القرن، وقرون الاستشعار العربية … حتى خلناه هو و سد يأجوج ومأجوج جيران ، لكن أصحابي لم يملّوا من تحديده في تعابيرهم ليل نهار:.. راح إلى الهفا.. عينوه بالهفا.. تلاقيه بالهفا ..
لم تتداع لي هذه الخواطر التي أخاف شرّها، إنما غزتني متأبطة سيف ذي يزن حين دعانا السيد (عيون الزمان) إلى جلسة في قهوة دولاب الهواء… و خيّرنا إن كنا نرغب برحلة معه إلى الهفا الأسبوع القادم ..
ظننا بداية أنها غيمة صيف عبرت خياله..لكن الرجل والحقّ يقال لا يمزح ما إن وصل مع صاحبي إلى المقهى، وجلس حتى ردّ على اتصال هاتفي قائلاً: في زمان المعجزات لا تستغرب شيئاً..إنما الحق أقول: أبو صُفّيرة شطّها كثيراً.. قل له على لساني: أنا أعرف أن كل الأئمة اتفقوا على أن الذي يريد أن يتطهر ويغسل ذنوبه يحج إلى مكة..لا إلى فنادق الكاسيات العاريات، أو الوقوف على أرصفة مزارع أرباب النعم للتبرك بتمسيح أحذية المهام القذرة…. صعقنا أنا وصاحبي إذ أحسسنا أننا بحضرة شهاب الدين وولي المصلحين لا يمين سعادة السيد ( المُفيّم.)…
سألناه: كأن مبادئك قفزت قفزة سنغافورية…
ردّ: الذين استحوا ماتوا.. يا سادتي الذي كان يتصل رجل كسر أبوابنا، وهو يستجدي كرسياً… تعطّفنا عليه فسلمناه منصب كشّاش حمام في أهم أبراج حمام سكرتيرة المُفيّم…. لكنه كأنه مفطوم على التصفير، فقد أصاب نصف جيران المفيم بالطرش، لكثر ما كان ينغّم التصفير ، وكنا نظنه يمارس طقوس كشّ الحمام، لكننا تفاجأنا بأنه باع نصف الحمام، وأكل ربعها في سهراته مع السرسرية الذين على شكله يقعون، وحين سألناه قال: لا أكل الطير لأن دمي يتحسس منه وكأن كرياته البيضاء حبات حنطة، لن تصدقوني.. لو حكيت الحقيقة.. آخر الليل كانت تأتي ثعالب طائرة تحطّ على البرج وتأكل الحمام.. والذي يستر يستر الله عليه.. سكتنا عن طياراته، لكنه أدمن التصفير، ونتف الريش، وأزكمت الجيران رائحة زفر مرقة الحمام، لكن الكشاش أصيب بهوس صدّق كذبته، وصار يطالب بإنصافه بمحاكمة الثعالب الهوائية، وشرفيته، وردّ اعتباره بولاية الهفا…كدنا أن نضحك، ولكن تأكدنا أن المشكلة في تخلفنا عن استيعاب دبّاغي جلد الزمن..، ثم تنحنح صاحبي بصوت يقلد صوت سيارات الهمر الذي لكثرة معاشرته له صار منها، وقال: استفاض عكر صفوي… كنت سأحدثكم عن آخر معجزات المّفيم فقد تبنى اقتراح شقيق صديقته الذي لقبوه قطّاع طريق الخيال…. فقد درس الخدع السينمائية بجزر القمر، وتفتقت عبقريته عن اقتراح إنشاء معهد لمحو أميّة العيون… كدنا نضحك لكن هيبة العبقرية منعتنا، فما تجرأنا على التساؤل..أكمل بنفسه: المفيم يريد تلهيته عن تعكير مزاج صديقته بمتابعته لها .. فوافق.. وقرر أن ينشأ المشروع القنبلة في الهفا …
كان لا بد لنا من شرّ السؤال…كيف تمحى أمية العيون…ضحك ولم نضحك…و راح يرندح قطّاع طريق الخيال قال :عين كل إنسان تعكس ما يشاهد، لكن مخ الإنسان يتحكم بعكس الصورة على قول الشاعر: كن جميلا تر الوجود جميلاً.
لا تستغربه بيده حقّ فبعض الناس مُفيّم على مخه الشؤم، و تشويش الرؤيا الإستراتيجية، تجده إذا رأى عشرة أكياس زبالة مرمية بجانب الحاوية ،يقول رأيت القمامة تلالاً..و إذا رأى أبا زلومة يشرشر نقطة زيت يقول: ما أزفره..أقسم قطّاع طربق الخيال بالله وتالله ووالله ورأس سته حكمية أنه سيُخرّج في المعهد بشراً ترى حاوية الزبالة سروة ذهبية، وشعر الماعز من دون ميش ضفائر نفرتيتي..ووو..
اضطر عيون الزمان إلى قطع الحديث بسبب هاتف كأنه استدعاه فغادر وهو يعتذر ويقول إلى لقاء آخر نكمل.. افترقنا وكل منا يفكر بالأرقام الفلكية التي يحتاج إليها المعهد و إيجاد الهفا التي نرغب بشمّ هوائها الذهبي والتصنت لزقزقة عصافيرها الشفافة وأشجارها الهوائية… ورحنا نغني وجدنا الهفا وجدنا الهفا
اكتشفنا يا صاحبي أن الهفا في ظلنا ونحن نبحث عنه في ظل طائر الفينيق.
مجلة قلم رصاص الثقافية