آخر المقالات
الرئيسية » رصاصة الرحمة » العلمانييون “العرب”

العلمانييون “العرب”

ولأن التعميم قتّال كما يقول الشاعر فايز خضور،  ولأن كل من فيه “مسلة بتنخزو”، فإني أشير في هذا المقام، إلى هؤلاء الذين لم يطلوا، عنب الشام ولا بلح اليمن، وهم الكثرة الكاثرة من العلمانويون المتوفرون والمتداولون في أصقاع المعرفة العربية المترامية وهي أوسع من بخش إبرة بكثير.

ولأن العلمانية هي تكنولوجية المساواة، ولأن الأديان لا تحمل ولا تحتمل في مدخلاتها ولا في مخرجاتها المساواة  بين البشر، لا كقيمة ولا كمفهوم، ولأن الدولة كتكنولوجية إدارة المجتمعات “حصراً” قائمة على المساواة كقيمة ومفهوم، كان لا بد من فصل الأديان عن الدولة بكياناتها الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية، فصلاً حقوقياً واضحاً صريحاً وعلانياً ومسؤولاً، وعلى هذا تبدو العالمانية فرصة، أكثر مما هي أيدولوجيا قابلة للاعتناق المشروط أو المطلق، وأكثر بكثير مما هي كاقتراح تجريبي يصيب أو يخيب ساحلاً في طريقه كرامات البشر وخبزها ودمائها، فالدولة الحديثة، هي دولة علمانية بالضرورة، من باب التأسيس على المساواة الإنسانية، وكل أنموذج يدعي أنه دولة مغفلاً شرط المساواة الصريحة والعلانية، هو أنموذج قيد الانفجار عاجلاً أم آجلاً، دون التدقيق في الأسباب إن كانت  خارجية أم داخلية، عضوية أم عرضية، فمحاولات تكييف المساواة التي تقوم بها هكذا نماذج، يحولها إلى عدالة لا أحد يعرف معاييرها بالضبط، ولا حتى ماهيتها، لتتحول الدولة من دولة المساواة إلى دولة العدالة، وهناك فرق تأسيسي شاسع بين الدولتين، عند هذه النقطة البدئية يتوقف العلمانيون “العرب” ليحولوا أنفسهم إلى علمانويون، تهرباً من استحقاقات العلمانية  التي أنجحت قيام الدولة الحديثة وإنجازاتها، فهم وعبر إدعاء جعل العلمانية مناسبة لخصوصياتنا الفريدة، يعبثون في الجوهر التأسيسي للعلمانية كأحسن تكنولوجية وصلت إليها البشرية حتى الآن، فيلجأون إلى تكييفها من منظار تراثوي كي تناسبنا، ولا يعولون بتاتاً على تغيير أو تكييف التجمعات البشرية لتبنيها كتكنولوجيا قادرة على خدمة هذه الشعوب أو التجمعات البشرية التي لن تتحول إلى مجتمعات “بالمعنى الحديث” تفرز دولة بالمعنى الحديث أيضاً، من دون المساواة البشرية التي لا يمكن لأية عدالة أن تقوم من دونها.

لقد حولت طروحات  العلمانويون “العرب” ( إدعاءات، أو سرديات أو خطاب)، العلمانية، إلى ملطشة عبر قولبتها في عبوات قابلة للتصالح مع الأديان، وهي غاية تتضمنها العالمانية نفسها، وذلك خضوعاً للأكثريات المتدينة أو المؤمنة عبر ممارسة التدليس عليها، وكأن هناك مشكلة بينها “العلمانية” وبين الأديان! وعلى النخب من أهل الصلاح التوفيق بينهما بالحلال، وصار الشاطر من هؤلاء النخب يقترح تعديلات على العلمانية، انطلاقاً من منجزاتها الناجحة كالديمقراطية، والحرية الفردية، وحرية المعتقد، وحقوق الأقليات بممارسة فلكلورها إلخ، معتبرين أن هذه المنجزات ما هي إلا تطبيقات نظرية، يمكن أن تقرأ بأية طريقة حتى لو كانت هذه الطريقة تقضي نظرياً على العلمانية ذاتها. لدرجة أن الشعارات الدينية التي تعلن نفسها كتمايز وامتياز حقوقي عن سائر المجتمع، تعتمد تماماً على أطروحة الحرية الفردية التي مكنتها العلمانية من الوجود والتفاعل، ومع توافق العلمانويون “العرب” مع هذا الطرح أضحت العلمانية تحمل بذور لا عالمانيتها كشرط لقبولهم بها، وهذا مثال تبسيطي إلى حد كبير، فكيف إذا تأملنا أحوال دساتير “الدولة” العلمانية في دنيا العرب؟ من المؤكد أننا سوف نحصل على مذبحة للمساواة، تحت عنوان العلمانية في العقد الاجتماعي الحديث. حيث افترض هؤلاء العلمانويون أن هناك معركة بين الدين والعلمانية وما ينتج عنها من دولة، ولكن ويا لخيبة هؤلاء لا يوجد في العلمانية ما يدل على معركة ما، ففصل الدين عن الدولة هو اجراء تأسيسي للدولة الحديثة المشتهاة  من قبل الجميع، واختراع معركة واهية وادعاء محاولة أطفائها بالتوفيق، يعني تماماً مقاومة العلمانية التي يتبنونها كتكنولوجيا، لا بل حشد الأعداء ضدها. والمضحك أن هذه المعركة التنظيرية الواهية والمختلقة لم تستطع جذب ولو القليل من الاحترام من جموع المؤمنين أو العامة لهؤلاء العلمانويون الأشاوس.

واقعياً نظرياً وعملياً، نحن ضحايا معركة جزافية واهية الأسباب، بين العلمانية والأديان والسبب المعلن لها هو انعدام المساواة! ولكن وواقعياً نظرياً وعملياً تبدو المعركة بين العلمانويون ومستثمرو التدين، فالطرفين يحاولان تكييف معطياتهما التفكيرية لصالح ثقافة الغزو، كإطار جامع، ومعيار مانع للحلال والحرام، حيث يبدو نظرياً على الأقل أن لا ساحة معركة يمكنها أن تجمع العلمانية والأديان معاً، فلكل مجاله وحيويته في إطار المجتمع الحديث، وهذا ما يظهر خلال المعارك الدموية الآن، إذ لا أديان مشاركة في الإيغال في هذا الدم، ولا عالمانية أيضاً، بل هناك طوائفية  وعلمانوية في حالة غزو متبادل طلباً للحق وليس إحقاقاً للصواب.

لقد أفرغ (جُلّ) العلمانويون “العرب” العلمانية من محتواها المساواتي، المساواتي، من خلال انتقادهم العملية وظهروا وكأنهم يريدون عالمانية مشروطة بما لا تقدر على احتماله، أو الحفاظ على مكوناته، خصوصاً في موضوعتي الديموقراطية والليبرالية (وخصوصا أيضا في محاسبة الغرب على ديموقراطيته وليبراليته)، إذ لا يفرق هؤلاء (الجُلّ) في الأكثرية الانتخابية  (مثلاً) بين أكثرية طائفية وأكثرية سياسية، محولين أي منتوج لعملية “ديمقراطية” إلى منتوج منزوع الدسم (المساواة) مسبقاً، أي الذهاب بالأداء “الديمقراطي” إلى مرحلة ما قبل المجتمع كشرط لممارسته كتطبيق علماني نجح في جل أصقاع الأرض، عازفين على نغمة الخصوصية والهوياتية الملغمة بالتمايز (الأفضليات) الحقوقي بين أعضاء “المجتمع”.

فصل الدين عن الدولة  كتكنولوجيا، لا يشكل ساحة معركة بعد كل هذا التطور الذي صنعته البشرية، فالأمر بات واضحاً، ولا يختلف أحد على تكنولوجيات السيارة والطائرة والصاروخ والبراد والغسالة والكومبيوتر والطبابة، بل يستعملها الجميع بحياد تام من أجل المنفعة، فلماذا العلمانية وحدها تقابل هذا العنت؟!

إنهم العلمانويون “العرب” الذين يريدون الشيء وعكسه معاً، إنهم يريدون عالمانية غير مفصولة عن الأديان فقط، تاركين التفاصيل للشعوذات الفكرية والتنظيرية علها تنشىء كياناً عدالياً يتناسب مع علمانية افتراضية  يمكنها تجاهل الاحتكار الأشوه للعنف، واسألوا في ذلك كل خبراء العلمانوية من محمد عابد الجابري وحتى طه عبد الرحمن، وما بينهما من حسن حنفي رجوعاً إلى محمد عبده.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن نجيب نصير

نجيب نصير
كاتب وسيناريست سوري عريق، كتب العديد من المسلسلات السورية التي لاقت إقبالاً كبيراً، تمتاز أعماله بطابع خاص، ومن أبرزها: نساء صغيرات، أسرار المدينة، الانتظار، تشيللو، فوضى، أيامنا الحلوة، وغيرها.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …