الرئيسية » نقار الخشب » “سكورسيزي والأكذوبة الأميركية”

“سكورسيزي والأكذوبة الأميركية”

الفن مرآة الواقع، ينقل لنا الواقع بسلبياته و إيجابيّاته و يصور لنا المجتمعات في مراحلها المختلفة من التطور والاستقرار حتى الانهيار، وعلى العكس تماماً فالمجتمع أيضاً يتأثر بالفن لما له من دور كبير في التأثير بالمجتمع وقيادته نحو ما يريد.

وهذا ما دفع المخرج مارتن سكورسيزي لتصوير فيلمه الشهير ( تاكسي درايفر ) أو سائق التاكسي وذلك للوقوف على الواقع الأميركي في نهاية الستينات وأوائل السبعينات.

وقفة على الواقع الأميركي في الستينات

في نهاية الستينات وبداية السبعينات، اعتقد الأمريكيون أنهم أمام فجر جديد لعصر ذهبي في أميركا، ففي كانون الثاني عام 1961 أصبح جون كينيدي رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية والذي وعد بحزمة من الإصلاحات في جدول أعماله للقضاء على الفساد الذي كان متفشيّاً في أمريكا في تلك الفترة، على أية حال العصر الذهبي لم يصل درجة التحقيق وفي نهاية الستينات ظهر أن العصر الذهبي هو مجرد وهم والأمة الأميركية كانت تقاد  نحو الانهيار.

وفي نفس الفترة كانت حرب الفيتنام قد نهشت من عظام الأمريكيين والحكومة الأمريكية وأخذتهم نحو هاوية الفقر مما استنزف الكثير من إمكانات الحكومة الأمريكية وقدراتها ولا سيما أن الحرب طالت وقسّمت الأمة مما زاد من الاحتجاجات الشبابية في الشوارع ودفع أخرون إلى السفر نحو كندا هرباً من التجنيد بينما ظل أخرون ( الأغلبية الصامتة ) صامتون و لم يبدون موقفاً واضحاً تجاه الحرب.

TAXI DRIVER سائق التاكسي

جسّد المخرج مارتن سكورسيزي والكاتب بول سكاردر وبالممثل الكبير روبرت دي نيرو في فيلمهم العالمي (سائق التاكسي ) الذي تم إنتاجه عام 1976 والذي نقل صورة حيّة للواقع الأميركي في الستينات من القرن الماضي والصراع النفسي المضني في تلك الفترة حيث أن سكورسيزي قام بتقديم هذا العمل الفني لتأريخ تلك الحقبة الزمنية المفصلية في تاريخ أميركا المعاصر وسعياً منه للفت نظر الأميركيين وكأنه يريد لفت نظرهم إلى تلك القوقعة القذرة

التي كان يعيش الأمريكيون بداخلها, كما أنه أراد أن يلفت نظر الناس إلى الأرواح الخيّرة ضمن هذا المجتمع الشرير التي تعاني ولا أحد يشعر بمعاناتها أمثال ( ترافيس ).

وتتمحور حكاية الفيلم حول سائق تاكسي وهو شاب أميركي “ترافيس بيكل” محدود التعليم ومسالم، لا يبدو عليه ميل نحو العنف، كان عائداً من حرب الفيتنام عقب إنهاء خدمته العسكرية في المارينز ضمن القوات المسلحة الأميركية وكلنا يعرف مدى المعاناة والتعب وانعدام الراحة النفسية التي يحظى بها الجنود على جبهات الحرب ويعود ذلك إلى القتل والدم والخراب والدمار والقسوة واللاأخلاقية في التعامل على أرض المعركة وهذا بدوره يعكس التأثيرات النفسية السلبية على المقاتل ورغبة هذا المقاتل بعد انتهاء الحرب في البحث عن الراحة النفسية والحياة الآمنة المفعمة بالطمأنينة والخير والفضيلة وخصوصاً وكلنا نعرف أن الولايات المتحدة خسرت في حرب الفيتنام مما سبب له أزمة أكبر من أزمة الحرب, سبب له أزمة ثقة بالنفس وإن وضع بلاده فور عودته من الحرب زاد له من تلك الأزمة.

ثم انخرط ترافيس للعمل في إحدى شركات الأجرة كسائق تكسي فور عودته إلى نيويورك وهو مقتنع بأنه عائد إلى بلده التي حارب من أجلها لمدة طويلة وبأنه سيرى بلد تستحق هذه التضحية, فتفاجأ بالواقع الأليم لبلده, مصدوماً بالمناظر التي شاهدها في الشوارع الأميركية فلم ير إلا العهر والشذوذ الجنسية المتفشية هنا وهناك بالإضافة إلى الدكاكين التي تحولت في معظمها إلى بارات وحانات لممارسة الجنس والعربدة واحتساء المشروبات الكحولية بالإضافة إلى دور العرض والتي انتشرت فيها الأفلام الساقطة والاستغلال الجنسي لفتيات صغار السن وكل ما يلحق بها من سلبيات,  فكانت حياة الأميركيين تافهة إلى حد كبير لم يعد مقبولاً وهذا ما أثار سخط وغضب السائق ترافيس فاعتبر نفسه المخلّص الذى سيقوم بإنقاذ المجتمع من الفاسدين والقوادين.

إن اتباع ترافيس للأسلوب الدموي العنيف لتطهير بلاده من الرجس يعود إلى الانعكاسات والتأثيرات التي تركتها حرب الفيتنام في أعماق نفسه فكأننا نرى أن ترافيس كان يحارب على صعيدين ( داخلي – خارجي ) فحربه الخارجية كانت حرب الفيتنام والداخلية كانت حرب على المجتمع الفاسد, حربه الخارجية مع جنود مقاتلين أما حربه على الداخل فقد كانت حرب على القوادين والمفسدين الذي يدفعون ببلاده نحو الهاوية.

فقد كان مشمئزاً من “القاذورات” المنتشرة هنا وهناك كما قال في إحدى المشاهد وخصوصاً أنه كان يعمل على ورديتين أي صباحاً ومساءً.

فنراه يقود السيارة ومعه راكب يعانق عاهرة ما التقطها من إحدى الحانات ويكلمها عن الليلة التي سيقضونها سويةً وتارةً أخرى، نراه يزيل المحارم والفوط النسائية المليئة بالدماء وينظف السيارة من كل تلك القذارة في كل يوم جديد يستقبله وهنا نلاحظ أن الدماء كانت عنصراً مشتركاً في الحرب أولاً وفي نيويورك ثانياً ( الفوط – المشاهد الدموية في نهاية الفيلم ).

فيما بعد ومع تقدم أحداث الفيلم يتضح لنا أن أحداث الفيلم هذه كانت تدور في ظل حملة انتخابية سياسية  مما يدعّم واقعية العمل الفني حيث أن الواقع الأميركي بالستينات كان مصاحباً لحملة انتخابية واسعة كما ذكر في المقدمة فنرى أن هناك اثنين من المرشحين ركبوا معه في السيارة ووعدوه بتطهير الولايات المتحدة من الفساد  والانحطاط والانحلال الخلقي (وهذا مطايق لجدول أعمال الرئيس كينيدي ) والذي يصفه ترافيس بأنه “الوسخ الذي اعتلى الأرصفة “.

ليلتقي ترافيس بفتاة تبلغ الثانية عشر من العمر تدعى ايريس والتي كانت تخضع لسيطرة شخص قوّاد يدعى سبورت. يصمم ترافيس على إنقاذ هذه الفتاة من هذا الظلم الذي تواجهه ويقوم بذلك بطريقة وحشية جداً, إلى أن تصله رسائل وقصاصات شكر من أبويها الذين أغفلوا ابنتهم طوال هذه السنين وهي في عمر الطفولة. وفي النهاية وفي اللقاء الأخير بين ترافيس وسبورت يظهر أنها كانت راضية للبقاء معه، ولكن السبب الحقيقي في تركها البيت لازال غائبا عن أعين الكثيرين وباعتقادي أن رفضها العودة إلى منزلها وإلحاحها للبقاء مع سبورت يعود إلى المجتمع ككل، حيث أنها شابة مراهقة في مقتبل العمر تتأثر بمجتمعها بشكل واضح جداً بالإضافة إلى أنها شبّت على العهر ومن شبّ على شيء شاب عليه.

إن الذي يجذب بقوة في هذا الفيلم هو الصراع النفسي الذي كان يعيشه ترافيس الشاب فتسلسل المشاعر والحياة النفسية التي عاشها ترافيس والتي أظهرها المخرج سكورسيزي فترافيس لم يكن يريد أن يغرق في أعماق هذه الحياة السفلى المضنية المليئة بالقذارة وهذه ما تجلى في عدة مشاهد, إحداهم ذلك المشهد الذي يكون ترافيس فيه وحيداً مع ايريس, فنراه يبتعد عنها ولا يحاول أن يمسّها بل يدفعها كلما حاولت الاقتراب منه.

 فطريقة عرض الحالة الفيزيولوجية والنفسية لهذا الشاب الذي أضاعت له الحياة أهم شيء في حياته و تركته وحيداً في عالم أخر مليء بالعزلة والصراع النفسي الصعب.

إن فيلم ” سائق التاكسي” هو كابوس مدهش عاشه كل من شاهده، وككل الكوابيس الأخرى فهي لا تخبرنا بنصف ما نريد معرفته. فنحن لا نعرف ترافيس وخلفياته النفسية  ورغباته الشعورية واللاشعورية ولا نعرف ما يرمي إليه ولا الذي عاناه سوى الذكرى المرعبة وهي حرب الفيتنام.

الفيلم قطعة نادرة مِنْ تمثيلِ إيحائيِ، يَختارُ سكورسيزي التفاصيل التي تحاكي المشاعر وتدمي أقسى القلوب وتظهر التأثير الذي يريده. كما لو أنَّ العواطف المطلوبة كُتِبتْ في هوامشِ سيناريو حياتهم: ليعطي الغضبَ، الخوف، الفزع، الكره، الحقد، الإحباط، العفوية والبراءة.

موقع قلم رصاص الثقافي 

عن أيهم أدهم الحليبي

أيهم أدهم الحليبي
مغترب سوري، درس اللغة الإنكليزية في جامعة دمشق والدراسات المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية في سورية، يكتب القصة القصيرة والنصوص المسرحية، فازت قصته "بوح الحرب" في مسابقة تلك القصص للإبداع بدورتها الأولى 2018، وصدرت في كتاب خلال معرض بيروت للكتاب 20، بالتعاون والتنسيق بين دار فضاءات للنشر والتوزيع الأردنية ودار انتركونتيننتال الصينية للنشر وموقع تلك الكتب الصيني.

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *