آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » “غي دي موباسان” في الإِبداعِ القصصَيّ

“غي دي موباسان” في الإِبداعِ القصصَيّ

“إنّ كبار الفنانين هم الذين يفرضون أوهامهم الخاصةَ على البشر”.

تلك عبارة الفرنسي “موباسان” الشهيرة؛ الكاتب الذي بدأ مشوار الحياة عادياً، وأنهاهُ باضطرابٍ وارتباكٍ أثارا جدلاً في الأوساط الأدبية أواخر القرن التاسع عشر، بعدَ أن عاصرَ أهمّ أدباء عصرهِ، وتتلمذَ على أكفِّ جهابذتهم أمثال: غوستاف فلوبير، تورغينيف وإميل زولا.

وُلدَ موباسان عام 1850  في بلدة باس، وشبَّ تلميذاً باراً بأستاذه فلوبير، فكان شبهَ لصيقِ بأولئكَ الذين طوروا التيارين الواقعي والطبيعاني في الأدب، الأمر الذي دفعهم لترشيحهِ لكبريات الصحف الأدبية آنذاك، فبدأ من خلالها القَصَّ والسَّرد لتتأثّر حكاياتهُ بمنطقتهِ الأمّ، منطقة النورماندي شمال فرنسا، بكلّ ما فيها من طبيعة وقصص وطبقات اجتماعية متفاوتة، إلا “باريس” كانت الأثيرة في قلبه، فأقام فيها متأثراً أيّما تأثر بالفيلسوف الألماني “شوبنهاور”، القاصف الأكبر لأحلام البشر على الأرض، ومن هنا بدأت تلوحُ على ملامح كتاباته رشوحاتٌ من كآبةٍ وتشاؤم، وأماراتٌ من غبن وتعاسة نشأت عن حنقٍ يزدري غباء البشر ونفاقهم وخداعهم، ومن رجال الدين، لا سيما المتاجرين بالطوباويات، لذا نجدُ جُلّ أدبه يتمركزُ على مقولة “الانتهاك والتخطي” بشكل جَليٍّ و واضح.

حياتُهُ :

كشفت الكاتبة الانكليزية “مارلو جونستون” عن سيرة حياة “موباسان” في كتاب بلغ 1300  صفحة، دفعها إلى كتابته بساطة أسلوبِ “موباسان” وجلاء الملاحظة لديه، إضافة إلى تعاطفه مع الجنس الإنساني، مدغوماً برغبتها للكشف عن الأساطير التي نسجت حول شخصيته، بحجة أنه لم يكن مفهوماً لمحيطه بعد أن أظهر تناقضاتٍ كثيرة في معتقداته، فكانت كلما تعمقت في تفاصيل حياته، تغرقُ أكثر في الكشف عن خبايا مراسلاته الثمانمائة، والتي كشفت من خلالها عن عمق ذكائهِ، وانتظام شخصيته على عكس ما أُشيعَ عنه، نافيةً بذلك كل التوصيفات التي نعتَتهُ بالجنون والهوس، وأن فترة بقائه في أحد المصحات النفسية لم تكن لسببٍ نفساني، وإنما لآلامٍ جسديةٍ مبرحة سببت لهُ أرقاً حاداً، إثر إصابته بمرض الزهري بعمرٍ مبكرة.

موباسان والقصة القصيرة :

رغم أن كتّابَ المدرسة الواقعية الفرنسية كانوا ميالين في رواياتهم إلى التطويل كما لو أنهم يرسمون لوحةً متكاملةً، إلا أن “موباسان” اختار التكثيف؛ وهو النوع السرديّ المختزل المتمثّل بالقصة القصيرة، متأثراً بمقولة “ما قلَّ و دلَّ”، لذا كان أقرب إلى الصدقيّة لاجئاً أكثرَ إلى الجمل القصيرة الرشيقة، وأكثَرَ الاستنادَ إلى ضمير المتكلم في الوقت الذي كانت فيه الرواية الكلاسيكية تعشق ضمير الغائب الذي يُخفي الكاتب وراء خشبة المسرح، فلم يكن يخشى إقحام شخصيته في عدد من هذه القصص، حيث عمدَ إلى ربطها بتفاصيل حياته اليومية، بادئاً من منطقة ولادته حتى جزيرة كورسيكا بطبيعتها وفلاحيها وقُراها، فظهرت لديه بجلاءٍ حيوات الفلاحين والنساء وكثير من القيم التي كانت تسود المجتمع الفرنسي آنذاك.

موباسان والمرأة:

شغلَتْ المرأة حيزاً كبيراً من أعمال “موباسان”، فأَتَت غالباً على صورة المرأة التي تنقع ضحية الرجال الذئاب، أو تلك التي تمتهنُ الإثارة، وكثيراً على صورة زوجةٍ ثرثارة مُتطلّبةٍ تتسببُ لزوجها وأسرتها بالخراب كما في قصته الشهيرة “الحلية المفقودة”.

كما أعار في قصصه اهتماماً خاصاً للأمّ والعائلة والطفل، وكثيراً ما توقف عند مسألة الأبوة الضائعة.

موباسان و الأدب السيكولوجي :

من خلال روايته الأولى “حياة”، برزت لدى “موباسان” جذور الاكتئاب، والتوق المبكر إلى الموت، فعنوانها ذي الطابع السيكولوجي سيطر بصبغتهِ على كتاباته الأخيرة، زادَ من تأثيره كونه تتلمذ على يد   “شاركو” مؤسس علم النفس الفرنسي، الأمر الذي دفع الكثيرين لوصفه بلقب مؤسس “الأدب السيكولوجي”، فتراهُ يظهر كما لو أنه محلل نفسي، يتدخل معلَقاً مكتفياً بأن يرسم مصائر الشخصيات وعواطفها كما لو أنه يُشكلها بعجينةٍ شفافة تجعلها مرئية للقارئ بكمالٍ لا يدانيهِ كمال.

خبايا النهاية :

نجاحاتٌ منقطعةُ النظير، ستُّ رواياتٍ وخمسٌ وعشرون مجموعةً قصصية لم تجعل “موباسان” راضياً عن نفسه، فشبّهَهُ كثيرٌ ممن عاصروه بمعاصره “فان كوخ”، لا سيما بعد أن نشط في سنوات حياته العشر الأخيرة، حيث طرأ تبدل كبير برزت سماته من خلال قصصه النضاحة بالسوداوية والتشاؤم والنزعة الكبيرة لتدمير الذات، اتضحت بشكل جليّ بعد محاولته قطع عنقه عامَ 1892  لم يعشْ بعدها إلا شهوراً قليلة.

عُدَّ “موباسان” مكملاً لرحلة هنري جيمس وسامرست موم، حيث بيع من روايته الأولى حوالي 2000  نسخة خلال أقل من عام، وبلغ عدد طبعات روايته “بل ـ آمي” سبعُ وثلاثون طبعة خلال أربعة أشهر فقط.

دخل إلى عالم الكتابة كما الشهاب، وغادره كصاعقة. ظللتْ نهايته سحابةٌ من غموضٍ واتهامٍ، نفَتْ مارلو جونستون حقيقتها في سيرته الذاتية مؤكدةً على جانب الآلام الجسدية المبرحة. نافيةً عنه تهمة الجنون القابعة خلف انتحاره عن عمرٍ ناهز الثالثة و الأربعين عاماً.                 

تولستوي، عملاق الأدب الروسي، أُعجب بهِ وأشادَ بأعماله مُعلناً :

“غي دي موباسان من أعظم كتّاب الأمة الفرنسية بعد فيكتور هيغو”.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن غنوة فضة

غنوة فضة
كاتبة وروائية سورية، مواليد مدينة اللاذقية (1987)، تحمل إجازة في التربية وعلم النفس من جامعة تشرين السورية، ودبلوم في البرمجة العصبية اللغوية، صدرت لها رواية "قمر موسى" نظرة على واقع ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع السوري.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *