آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » “ريشة لطائرة منقرض” للشاعر العراقي صالح رحيم

“ريشة لطائرة منقرض” للشاعر العراقي صالح رحيم

لا يوجد تعريف متكامل، صالح في كل مكان وزمان للشعر.. ولكن يمكن القول، باختصار، إنه الدهشة، الانبهار الخفي بالكائنات. هذه الدهشة هي التي تميز الشاعر عن مجرد قائل للقصيدة أو السارد لها. لكن الدهشة وحدها غير كافية لإبداع قصيدة، لأنها تتطلب إعادة تنظيم للأحاسيس والمشاعر والأفكار والصور، أي، الغوص في ثنايا كل ذلك والقبض على ما هو أساسي منها وترتيبه بشكل صبور ومتمكن، مبني على الخبرة والموهبة والمعرفة الادبية، وهو الامر الذي وجدته في ديوان ريشة لطائر منقرض للشاعر العراقي صالح رحيم.. الذي وصلني قبل أيام.

صدر الديوان عن دار الدراويش، عام 2020. وقد صمم غلاف الديوان الفنان التشكيلي العراقي صدام الجميلي، وتضمن الديوان ثلاثين قصيدة تتوزع عناوينها على ثيمات يومية مختلفة وحيوية، وتتناول ما يعيشه الناس، ترصدها عين الشاعر، بلغة متماسكة، مكثفة، بلا استطالات أو استطرادات غير ضرورية.. ثمة تآزر لهذه العناوين وموضوعاتها بين التهكم  والحكمة والفلسفة، والصوت الاحتجاجي، وحتى ما هو تجريدي لتقدم لنا بانورما جمالية شعرية لا تبتعد رغم ذلك عن كل ما يشغل الإنسان في يومه العادي وهمومه واحزانه وتطلعاته، وخيباته..
لغة القصائد مبنية بحذر شديد وتتأسس في أكثرها على الفكرة أكثر من الصورة، بعض المفردات تبدو يومية ومتناولة، لكن الشاعر مع ذلك يمنحها بعداً وجودياً:

“ولدت في العاشرة من مايو
في السنة الرابعة والتسعين من القرن العشرين
وقد كان والدي في السجن
فتجرعت المرّ في المهد حتى صار طعمه حلواً
وتغنيت وحدي في حظيرة الاصدقاء والأحبة.
كان جدي رحمه الله
مغرما بالنبي صالح وبناقته التي عقرت
فسمّاني تيمنا باسمه،
ولما كبرت رأيتُ الناس يعقرون كل شيء
رأيتُ الناس يعقرون الناس!
وأنا لستُ نبيا لأنهي
أنا مجرد صالح لا ناقة له في هذا العالم
ولا جمل، صالح رأي الجملَ يتطلع غلى نجاته من ثقب الإبرة!”..(قصيدة CV، ص 30).

وكما نرى أن يتحول بها من لغتها المتداولة في البدء ليعكف بها إلى أمر أكبر ذي مغزى أسطوري ووجودي، بأحاسيس مفعمة باللوعة والغضب الخفي والاستهجان.
وفكرة الاستهجان التي افتتح بها ديوانه في الإهداء، يمكن أن يقال، إنها محاولة في الدفاع عن الذات، رغم التهكم والسخرية الفاضحة التي تخيم عليها:

“الولد الذي تحبه المعلمة لنباهته ولشدة حبها كتبت له أحسنت يا حمار، إليه ذلك الحمار الذي ضاع في الوديان”.(ص 5).
الضياع الذي لم ينتهِ، بل رافقه انتهاك آخر، حيث لم يسلم أحد:

“لا الطريدة سليمة
في هذا الوادي
ولا الصياد،
الكل ينزف دماً
يمدّ الآلهة بالبقاء”.

ففي هذا العالم لم يعد للصوت الصافي النقي قيمة ما، بل للصراخ، الفارغ، التجاري، وربما المهرج، ولهذا يردد في إحدى القصائد باحتجاج:

“إنك
بحاجة إلى حنجرة قوية
لا تتأثر بمدى ما تفرضه عليها من صياح،
لكي تمرر بضاعتك بيسر ..
وكل ما لديك يعتمد تسويقه
على مقدار ما تتمتع به من صراخ.”( حنجرة بائع متجول، ص 11).

ومع إن صالح سعى من خلال التهكم والاستهجان إلى تقديم إدانة أو رسم صورة لما يحسه هو كشاعر، إلا أنه بقي عند هذه الأجواء، قابضة عليه محاصرة إيّاه في أجوائها، بدلاً من أن يستخدمها ليرى مديات أخرى تتفرع وتزهر خارج حصونها وتفاصيلها، أي أنها بقيت عند تخوم اللوعة، والحزن.

“لم يعد لك وجود في لائحة الغرقى
ولا في لائحة الناجين، حياتك التي عشتها
غبار بددته الريح، وقد اختفى الطائر
الذي بنى عشه على كتفيك جردوه من جناحيه وقالوا لشجرة
يابسة احتضنيه..” ( قصيدة أساليب، ص 80)

وربما يعترض أحد ويعتبر هذا الطلب تجاوزاً على مهمة الشاعر، لكن هذه الإشارة تنطلق من ثيمات الشاعر ذاتها وانشغالها بها وتحفز عليها، وبذلك أرى أن من حق القاريء أن يطالب بذلك. فالشاعر رغم انشغاله بعمله الجمالي والأدبي لكنه هو قبل كل شيء إنسان، كائن وجودي، عليه أن ينشغل أيضاً بفتح كوة لدخول الريح أو االعاصفة، وربما يكون بوصلة نحو أفق يضج بالحياة ..حياته.
ديوان الشاعر صالح رحيم يستحق قراءات متعددة، وهذه قراءة موجزة ومبتسرة، آمل أن تتاح لي فرصة أكبر للعودة إليه بتفصيل أعمق. إن شاعراً يوصي نفسه بأن “يستمع إلى الدمع أولاً”، لا يمكن إلا أن يكون شاعراً مبدعاً.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قحطان جاسم

قحطان جاسم
شاعر ومترجم عراقي وباحث في علم الاجتماع السياسي، نشرفي الصحف العربية والعراقية والدانماركية ومنذ عام 1977 العديد من القصائد والمقالات والدراسات في شتى المواضيع السياسية والاجتماعية والادبية.

شاهد أيضاً

ليالي الرعب في الرقة

الغرفة شبه مظلمة، مصباح صغير يضيء المكان، يكاد يلف المكان صمتٌ مخيف، تتخلله دقات الساعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *