آخر المقالات
الرئيسية » ممحاة » كتابة على جدران المدن المستباحة !

كتابة على جدران المدن المستباحة !

يمكن أن تلتقي بإنسان يكون جميلاً إلى مدى لا حد له على الورق، أو يمكن أن تنجذب إلى أفكار ثورية لآخر دون أن تعرفه شخصياً، إلا أن الواقع، لا يمهل كثيراً، فيكشف حقيقة هؤلاء.. قبل عقود التقيت بشاعر شعبي معروف، معروف الى درجة تجاوزت كل الحدود، بثوريته، وقصائده الجماهيرية.. التقيته في المقهى التابع لفندق الشام في دمشق، الذي تعود الجلوس فيه يومياً تقريباً، وكنت مرتبكاً إلى حد كبير ليس من الشاعر، بل من الفندق، إذ كنت حينها آكل أحياناً وجبة واحدة خلال كل النهار، لكي أبقى على الحياة، ولا أملك تقاليد دخول مقهى بمستوى فندق الشام.. بينما كان ذلك الشاعر الثوري، الذي تتردد قصائده على العديد من الألسنة، يتمتع بخيرات الحياة، ويشرب الكافه لاده، ويسكر في الليل مع حفنة من أتباعه، لم يكن يبدو مشغولاً بهموم ما، أو قلقاً مثلي بما سيأتي به الغد من جوع… كنت حين ذاك أحمل رسالة شفوية من صديقٍ له، شاعر شعبي بقي في العراق، حيث أوصاني، وكنت حينها أفكر في الخروج من العراق بأقرب فرصة نتيجة للوضع السياسي المرعب، آنذاك، والسفر إلى بيروت، وكان يعتقد حينها بوجود صديقه الشاعر “الكبير” ذاك، في بيروت.

حاولت الحصول على جواز سفر، إلا أن وجود اسمي على قائمة الممنوعين من السفر حال دون ذلك، فتأخر هذا اللقاء الى سنوات إضافية متنقلاً هنا وهناك، حتى اخترت التوجه إلى كردستان والبقاء مع البيشمركة 

ثم ايران، من ثم حطت رحالي في سوريا.. سمعت بوجود الشاعر “الكبير” في دمشق وكنت متشوقا حقا للقاء به.

لم يكن لقائي به لحاجة، رغم إلحاح الجوع على الجسد، بل لنقل تلك الرسالة الشفوية من صديقي فحسب، التي كنت أعتقد، بصدق، انها كانت تعني شيئاً ما إليه.

كان اللقاء بارداً، خالياً من العاطفة، بل فيه شيء من النرجسية والتعالي الفارغ، فقد كنت أتوقع أن هذا الشاعر “المعروف” سيهب فرحاً بسماع أخبار صديقه، والذي كان بالمناسبة سجيناً معه في ستينات القرن الماضي.. هذه النرجسية، التي جعلتني وتجعلني دائماً أتحاشى اللقاء بالمثقفين، رغم أنه لا يمكن التعميم هنا..

أدركت لحظتها، أن عليّ أن أختصر اللقاء، شربت شايي سريعاً، وغادرت خائباً، وأخذت علي نفسي عهداً، أن لا أذكر أبدا هذه الخيبة، التي ولدّها هذا اللقاء، ذات يوم، إلى صديقي الشاعر الذي واصل حياته في العراق صامتاً وشجاعاً في ظل أعتى نظام معاصر وأكثر إجراماً.. لكي لا ألغي تلك الصورة ” البهية” التي يحملها عن صديقه الشاعر “الكبير”.. غادرت وفي نفسي يلحُّ السؤال الذي دائماً أطرحه على نفسي: هل يمكن أن يكون هناك لدى الثوري، أو الإنسان عموماً، انفصال بين النظرية والتطبيق، بين الإدعاء والواقع، إلى هذا الحد؟ والى أيّ مدى يمكنه إخفاء ذلك؟

خاص مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قحطان جاسم

قحطان جاسم
شاعر ومترجم عراقي وباحث في علم الاجتماع السياسي، نشرفي الصحف العربية والعراقية والدانماركية ومنذ عام 1977 العديد من القصائد والمقالات والدراسات في شتى المواضيع السياسية والاجتماعية والادبية.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *