الرئيسية » رصاص خشن » الأحمق !

الأحمق !

كَكُلِّ يوم، فتح الأحمق عينيه على نفس السؤال: “من أنا؟ أين أنا؟”. لم يعرف أبداً كم كان يستغرق من الوقت ليتذكّر الإجابة. و إن كانت المدة تختلف من يوم لآخر، فقط كان يأمل أنها ليست آخذة بالازدياد فذلك إن حدث سيكون مؤشراً مقلقاً فعلاً.

وكَكُلّ يوم وبعد أن يتذكّر من وأين هو؟ يبدأ شريط حماقاته الكبيرة بالمرور في رأسه دون أن يكون له رأي في إيقافه. الجيّد في الأمر أن الشريط يقتصر على عرض الحماقات الرئيسية فقط، متجاهلاً اليومية والصغيرة منها وإلا لاحتاج الأمر حياة كاملة كل يوم لاستعراضه.

هل كان الحال هكذا دائماً؟ هل لطالما كان أحمقً؟ لا أحد يعرف تماماً، لكن المؤكّد أنّه ومنذ مرحلة مبكّرة كان هناك شيءٌ غريب حوله، وقد استشعره الجميع تقريباً. فجدّته لأمّه كانت تردّد دائماً: “هذا الصبي مذنب، والله مذنب”، وجدّته لأبيه كانت تشطف الأرض بالكثير من الماء بمجرد مغادرته. أمّا المربيّة التي كانت تعتني بمجموعة كبيرة من الأطفال، فلم تستطع أن تتعامل معه لأكثر من ثلاثة أيام رفضت بعدها بشكل قاطع استقباله حتى لو ضاعفوا لها الأجر المعتاد.  “روح هذا الصبي أكبر من جسمه بكثير، احسبوا له”. قالت لأمّه بمنخرين مفتوحين وتكشيرة عن سنّ ذهبي وحيد.

أمّه كانت دائمة القلق عليه. أبوه لطالما كان مرتاباً حياله.

لاحقاً بدأت حالته تصبح أكثر وضوحاً، كان ببساطة يقوم بكل الأشياء دون أن يأخذ لحظة ليفكّر بما هو مقدم عليه، ليس لأنّه غبي أو ما شابه، هو لا يعرف طريقة أخرى للقيام بالأشياء فحسب. إنّه المستجيب بإخلاص لأول منعكساته العصبية والنفسية أو ما يُعرف عند معظم البشر بالأحمق.

اعتقدَ دائماً أنّ فعل الأشياء بطريقة مختلفة عمّا يقوم به ستُهلِكه حتماً، وتَعلَقُ به في مستنقع نتن من أسئلة تبدأ جميعها بــ”ماذا لو؟”. أسئلةٌ للجبناء والمخصيين لم يتخيل نفسه يوماً واحداً منهم. طبعاً ما كان ليحلّل الأمر هكذا وما كان ليعرف أن به خطباً بالأساس لو لم يحاول الجميع في مرحلة ما إقناعه أن الحياة قائمة على الاحتمالات، وأن هناك علماً قائماً بذاته يدعى حساب المخاطر، وأنّ تقبيل المؤخرات ليس أمراً سيئاً بالمطلق.

لذا كان طبيعياً أن تراه يقحم نفسه في شجارات خاسرة وإن ربح بعضها، ومعارك محسومة النتيجة في غير صالحه وإن انقلبت النتائج في حالات نادرة بصورة غير مفهومة. وهكذا فإنّ وجه الأحمق مليء بالندوب و رأسه مليء بالترهات وعضوه يكاد يكون دائم الانتصاب، لكنّ روحه كانت حرّة. أو هذا ما كان يعتقده على الأقل. 

“أنتَ ما أنتَ عليه، لن تكونَ إلّا كذلك. وهذا اليوم سيكون رائعاً”.

ردّد الأحمق شعاره الصباحي، وأطلق نفسه للحياة مجدداً.

حاول الاتصال بحبيبته، حين لم تجب تذكّر أنّهما انفصلا للأبد للمرة التاسعة خلال شهرين.

“فلتذهب إلى الجحيم” فكّر بصوت عال.

 في حالة كهذه كان يُذكّر نفسه بإحدى قواعده الذهبية : “لا يخرجك من امرأة سوى امرأة أخرى، أوPlay station 4 ملحقاً بها جهاز محاكاة الواقع”.

حسناً، ليس هناك امرأة أخرى ولا شيء يدل أنّه سيكون هناك واحدة قريباً، الـ PS4 في مهب الريح، اضطر لبيعها مؤخرّاً لتسديد فواتير مستعجلة.

هناك بدائل بالتأكيد، الكحول خيار جيّد ومتاح، النوم مطوّلاً بمساعدة أقراص طبيّة وغير طبيّة، الكثير من أفلام البورنو ولتذهب السينما الجيدة إلى الجحيم.

شرب قهوته بسرعة، تغوّط بسهولة ما حسّن مزاجه جدّاً، فالخراء برأيه ليس أبداً مجرد فضلات طعام. هو إضافةً لذلك فضلات ترهات وهراءات وخذلانات اليوم السابق.

خرج ليقضي يومه العادي، أدار سيارته المهترئة فأصدرت الأصوات الغريبة 

المعتادة التي لا يمكن لسيّارة أخرى أن تصدرها. “قريباً جدّاً سأطعم لحمك للكلاب”، سلّم عليها كما يفعل كل يوم.

انطلق بها بصعوبة و بدأ الشريط الوحيد في مسجلتها بالدوران.

“ I shot a man in Reno just to watch him die “ غنّى المعلّم جوني كاش.

“أليسَ جوني كاش الأكثر روعة على الإطلاق؟” حدّث الأحمق نفسه. “أطلق النار على رجل فقط ليتفرّج عليه و هو يموت “.

للحظة رأى نفسه بهيئة جوني كاش مستنداً إلى جدار وبيده بندقية وباليد الأخرى سيجارة يدخّنها على مهل، و أمامه على الأرض يتمدد رجل في بركة من الدماء يلفظ أنفاسه الأخيرة بعينين جاحظتين، ربّما إلى ابتسامة الرضا المرتسمة على وجه الأحمق كاش.

صوت زمّور طويل وغاضب مرفقاً بشتيمة محترمة مسموعة جاء من سيارة مقابلة جعله يستفيق قبل الاصطدام بلحظة. ردّ الشتيمة بأحسن منها وأعلى. ودون أن ينظر أحدهما للآخر ركنا سيارتيهما ونزلا ليبدأا الشجار. دخلا في الأمور المهمّة مباشرة، الركل واللكمات والمناورة وتفادي الضربات، الغريب جدّاً أنّه حين سدد لكمة موفقة مباشرةً إلى وجه خصمه شعر أن أنفه هو قد كُسر، وتكرّر الأمر حين استغل حركة خاطئة من الخصم وأصاب خصيتيه بركلة رائعة، لكنّه هو فقط من كبت صرخة الألم المبرّح، تحامل على أوجاعه كما اعتاد أن يفعل واستمر بالقتال، لكن ابن العاهرة الذي أمامه لم يكن أقل عنداً ولم يعطِ أي مؤشّر أن في نيّته الاستسلام. ظلّا يتعاركان حتى انقطعت أنفاسهما تماماً. عندها وحين لم يعد من الممكن الاستمرار في القتال لم يتعانقا طبعاً ولم يشكر أحدهما الآخر قائلاً: “لقد كان قتالاً جيداً ” كما يفعلون في كوكب هوليوود. بل انسحب كل منهما إلى سيارته متهالكاً، محاولاً بيأس أن يقول الكلمة الأخيرة مستعيناً بشتائم تتحدّث عن عضوه الذي سوف يخترق جميع  أقارب الدرجة الأولى للغريم اللعين. ليس بهدف المتعة لا سمح الله، لكن التأكيد على الفحولة أمرٌ أساسي حتى في أحلك الظروف.

لم يكد يتحرّك حتى رآها على الجهة المقابلة من الطريق. لم يصدّق عينيه، إنّها المرأة التي تأتيه في الحلم دائماً منذ كان طفلاً، إنّها هي دون شكّ بعيونها السوداء الواسعة وبشرتها ناصعة البياض وشعرها الليلي بقصّته الفرنسية. ليس هناك امرأة في الدنيا بجمالها وأنوثتها و رقتها، ومع ذلك و دون سبب منطقي واحد كانت تعشقه هو الذي لا يستحق ظفرها، تعشقه إلى الحد الذي طالما دفعه للبكاء، فالحلم دائماً كان ينتهي في لحظة ما و يأخذها معه. أمّا هو فقضى حياته تقريباً يقنع نفسه ببعض أوجه الشبه بينها وبين كل امرأة عرفها. لكنّها الآن هنا على بعد خطوات قليلة فقط، ركن السيارة جانباً وأخذ لحظة ليفكّر ما سيفعل، إنّها ربّما اللحظة الوحيدة الجديرة بأن يرمي حياة كاملة من الحماقة في كيس قمامة كبير ويحكم إغلاقه جيّداً. يبدو أنّ التفكير لم يكن مقدّراً له أبداً، فقد رأته فجأة واندفعت نحوه راكضة عبر الطريق المزدحم وكأنّه فارغ تماماً. فتحت باب السيارة كالمجنونة ورمت نفسها في حضنه. كانت تبكي بحرقة وتقبّل وجهه وأنفه المكسور النازف وتقول: “من الذي فعل بك هذا؟”.

استجمع كل حواسّه وطاقته الخائرة وأمسك بوجهها ونظر عميقاً في عينيها وقال: “عديني أنّك ستبقين”. ابتسمت بين دموعها وقالت : “أعدك، هذه المرة لن أذهب لأي مكان”.

اقترب ليقبّلها أخيرا”….

 وككّل يوم فتح الأحمق عينيه على نفس السؤال: “من أنا؟ أين أنا؟ “.

 مجلة قلم رصاص الثقافية 

عن زياد حسون

زياد حسون
كاتب وقاص سوري مُقيم في اللاذقية، حاصل على ماجستير في الإدارة، يكتب وينشر مقالات وقصص في عدد من المجلات والدوريات الأدبية، صدر له مجموعة قصصية بعنوان: “ڤودكا مغشوشة”.

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *