آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » المناهج الدراسية تقتل عبد الرحمن الكواكبي!

المناهج الدراسية تقتل عبد الرحمن الكواكبي!

عامر العبود |

كيف تغربل مناهج الدراسة في سورية؟ تحديداً اللغة العربية والفلسفة..! لا أستطيع مناقشة معايير اقتطاع نص ما دون غيره من كتاب أو قصيدة، لأنني بكل بساطة لا أعرف هذه المعايير ولا أستطيع تخمينها، لكنني تجرأت مرات عدة عندما كنت طالباً في الثانوية العامة على تقمص دور (صاحب القرار) لا أدري ما هو توصيفه الوظيفي، لكنه ذاك الشخص المطّلع الذي يقرر فعلاً أي النصوص يضع وأيّها يستثني، أي المقاطع (ينفع) وأيّها (يضر)! ومن أبرز إنجازاتي في هذا المجال، أنني حذفت نص الكواكبي من محور الاستبداد في مقرر اللغة العربية، كما رفضت إدخال أدونيس إلى المناهج، مذ ذاك الوقت كنت أعرف تماماً أنني لست أهلاً للاختيار، وكنت أشعر أني أكثر جهلاً من الموضع الذي تخيلته لنفسي، أما أدونيس؛ فسيدخل المناهج عنوة، لا شاعراً فقط؛ بل فيلسوفاً، وأما الكواكبي فله حكاية أخرى.

عشر سنين، وأنا أتجنب كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) كلما تذكرت المقاطع التي درستها في “البكالوريا”، عشر سنين يجذبني العنوان وتبعدني الذكرى، في كل مرة دخلت إلى مكتبة، تجنبته، ذات مرة اشتريت رواية صينية لم أفهم منها شيء، لكي لا أشتريه، واقتنيت أسوأ دواوين الشعر، ولم أقتنه، وبدأ الرفاق يقولون أنني مثقف-ما أجهلني وما أجهلهم- ولم أقرأه! أي مثقف هذا الذي يتجنب كتاباً؟!، حملته بيدي مرات عدة، واشتريت غيره، ظلت تلك المقاومة مستمرة، حتى قررت أن أقرأ الكتاب، ومذ ذاك الحين وأنا أرغب لو أستطيع أن أشتري كل النسخ في العالم اعتذاراً عن حماقتي، كما رحت -بعدها- أتشاجر مع كل من يتهمني بـ “الثقافة”.

هكذا، اكتشفت كيف يفَّصل الكاتب العلاقات الدقيقة للاستبداد بكل مظاهر الحياة، وكيف يناقش نشأة الاستبداد الفلسفية، وقاعدته الاجتماعية والدينية، كل ذلك كان بطريقة سلسة تساعد القارئ على ربط الأفكار وتحليلها بوضوح، وهذا لعمري ما تفتقر له الكثير من الكتب، وعلى الغلاف الخارجي للكتاب، تحت صورة عبد الرحمن الكواكبي بزيه التقليدي ونظرته الهادئة، جملة تعبر عما في الكتاب “هي كلمات حق وصرخة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، لقد تذهب غداً بالأوتاد…”

 وبعد أن انتهيت من القراءة كنت أريد أن أعرف كيف تم اختيار النصوص التي درسناها؟ ولماذا؟!

النص الذي درسناه هو نص إنشائي، يخاطب العواطف، يحرّض الواقع تحت الاستبداد على المقاومة، لكنه تحريض عاطفي بشكل أساسي، حيث تتخيل أن الكاتب (خطيب في جامع)، أو (رفيق) يساري، يخاطب صغار الكسبة والعمال البسطاء، ليكونوا درعاً بشرياً أمامه، يحرضهم بشكل آني، فإذا انتهت المعركة نسي الأحياء منهم أسباب وقوعها! وخسر القتلى حيواتهم ليكتب المؤرخ أنهم انتفضوا ذات يوم، كالقول المذكور في المنهاج : “المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي؛ فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته”.

أو قول القائل: “فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفاً لما أقدم على الظلم”.

إلى آخره مما يتذكره طلاب الثانوية العامة، هذه السطور ليست رديئة أبداً، بالعكس هي كلمات بليغة بديعة كما يصفها الكواكبي نفسه، لكنها بديهية، ولا تعبر عن تحليل عميق، بل هي أقرب ما تكون إلى خواطر خاطفة، لن يرغب أحد بقراءة كتاب كامل ينضح بها، قد يكتفي بما قرأ في المنهج الدراسي، لكنها حقيقة لا تترك فضولاً لمعرفة المزيد، إنها خطبة بليغة ممتعة، لن تترك في العقل الذي يقود إلى التغيير أكثر مما ستترك في العاطفة التي لا تقود إلا للفوضى إن تمكنت، إنها توصيف لشكل الجرم يتجنب الخوض في مضمونه.

أما الصدمة الكبرى أن كل النص الذي ورد في المنهاج الدراسي، والذي ذكرنا بعضه، لا علاقة له بالكواكبي!، ولا هو من بنات أفكاره، وليس من متن الكتاب بقدر ما هو من هامشه، كما أنه مأخوذ من صفحة واحدة على الرغم من تفككه.

 الأمر ببساطة، وفي رأس إحدى أولى الصفحات التي اقتُطعت لتدرَّس، يقول الكواكبي ما لم يقله لنا المنهج:

“وقد تكلم بعض الحكماء-لا سيما المتأخرون منهم- في وصف الاستبداد ودوائه بجمل بليغة وبديعة تصور في الأذهان شقاء الإنسان، كأنها تقول له هذا عدوك فانظر ماذا تصنع، ومن هذه الجمل قولهم…”

ثم يسرد الكواكبي ما قاله الحكماء!، في الفصل الأول (ما هو الاستبداد)، وفي إطار تقديمه للكتاب، أي أن ما درسناه لم يكن للكواكبي أصلاً! أضف أننا لم نعرف شيئاً من عناوين الفصول الأخرى، الاستبداد والدين، الاستبداد والمجد، الاستبداد والمال…. إلخ، لماذا يا ترى؟!

خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …