آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » “الحرية التي أكلت البلاد”

“الحرية التي أكلت البلاد”

إبراهيم حسو  | 

الجراح السورية عندما تصبح كلمة مشاعة

في جديد الشاعر السوري محمد صالح عويد ـ (الحرية اكلت البلاد  2016 طبعة دار الأدهم مصر) ـ ندخل في فضاءات متشعبة من الدلالات والصور التخيلية ونصوص مقسمة إلى أرقام غامضة وملتبسة إلى أبعد ما تصل إليها اللغة نفسها، فاللوحات الموزعة على طول وعرض 130 صفحة هي على وجه التقريب نصوص في أدب الثورة السورية أو ما يمكن أن نقول عنها شعر الشرارات الثورية التي أشعلت كيان الشعرية السورية وألهبت مشاعر الكثير من القراء العرب، وتبدو هذه الكتابة جزءاً من تصدير حالات شعرية مؤطرة ضمن اختبارات واعتبارات سياسية وفكرية، وهي تتجاوز الذات الشاعرة وتطمسها في أغلب الأحيان، ساعية إلى إفلات العقد الشعري المتعارف عليه، وتركه يواجه رياح التعبير وعواصف العاطفة من الداخل، أي من المنبت الشعري الذي يواجه بدوره براكين البلاغة الصارمة وتشابك الطرق الايصالية للكلمة نفسها.

الشاعر عويد اقترح لنصوصه بيئة شعرية متوازنة، إذ ثمة نماذج شعرية مستوردة من مجموعاته السابقة (رمادي ..وليمة للريح 2014) و(لا عرس بين المقابر..ارتكابات شغب 2014 ) تاركاً تفاصيل حياته الشخصية وراء الكلمة متجهاً إلى البلاغة والخطابة الثورية، لم يسعَ إلى شخصنة تجربته وتفصيلها، إنه يبحث عن آلة لتصنيع المعاني وسبل تعبيرية ايصالية أخرى، في شعره هدوء و صراخ معاً، شيء من الانفعال والافتعال، أو ظاهرياً يفتعل الهدوء بينما هو في كل كلمة يصرخ ويولول على ما يجري في وطنه سوريا، فهو يجمع بين الخطابة كتجربة معاشة وبين التجربة الحسية الداخلية كأساس ومعيار شعري لا بديل عنه، يجترح عويد مستويات تعبيرية متعددة، وكل مستوى له لغته وخطابه، لغته راسخة ونابضة قائمة على بلاغة متشددة ومعقدة، قائمة على تأويلات وانخطافات دلالية متحركة, تجربة تمتزج الحركات مع بعضها، حركة المعنى مع حركة الصوغ, في أداء شعري يعيقه هذا التزلف السياسي أو الفكري القائم أيضاً على مواجهة مع الأنا الكلي والهو ( الوطن ) الجزئي، كتبادل (الأنوات) باتفاق سري  يغلفه تحدي مع الحداثة المفترضة، وهنا يلعب الايقاع الصوري لعبته عبر الحوارات والايحاءات وتداخل الصوت مع المدلول، في خلق حالة ثورية بين الكلمات نفسها, مخلفاً موسيقى تكمل وحدة الفكرة والمضمون:

علموني في قصة سيد الجبال / أن أحتفظ بالطلقة الأخيرة ولا أفرط بها / ومن الصحراء قالوا / أحتفظ بآخر شربة ماء / جلست خلف آخر بيت لم يأكل سوى قذيفتين / وبقي منه جداراً واحداً / أمسكت ورقة وقلم / عجوزاً ظنتني أكتب رسالة وداع لأمي / ولم تعرف أن أمي كانت تنام من الليلة الماضية تحت ذاك الجدار / ومن بين الرماد ابتسمت توهمت حلماً / وظنت أني أكتب لحبيبة / وهم اغتصبوها كما وطن. (ص 60).

يتحرك نص ( الحرية التي أكلت البلاد ) في محورين متنافسين، محور الجملة الطويلة ذات المعنى الواحد ومحور الحكاية للحدث الشعري، وكلا المحورين يتجهان نحو شعرية الحكاية، لكن بكثافة المعنى وإسهاب التفصيل، هو يؤسس الحدث الشعري ويبني عليه شخصيته الشعرية ويستعيد به الأزمنة والأمكنة معاً، الزمن قبل الثورة والزمن في خضم الثورة، يستعيد الإنسان السوري عندما ظهر أول مرة مطالباً بحياة جديدة وآمنة وكريمة:

أنت تركض ..تركض / في الزحام / لا ينظر أحداً لوجهك  / ويخيرك بأنك تركض حافي القدمين / بآخر الشوط حين تصل / يصفقون لك حتى لو وصلت بلا قدمين.

ما يهم أن محمد صالح عويد عبر كتبه الشعرية السابقة أنه تجاهل تجارب الكبار، خاصة تلك التي تتناول الثورات العربية، اختار نصوصه بدقة وذكاء، بل إنه اشتغل عليها على مساحة دلالية غير مباشرة، فعمد على تبسيط الفكرة رغم بلاغتها، وتنشيط الكلمة المتعددة رغم قاموسيتها الثقيلة، فحضور المفردات الصحراوية يغطي الكتاب ويجمله برماله، وبعض الرموز القبائلية أو العشائرية من البيئة الفراتية تكاد هي العناوين الأبرز، هناك دائماً نوع من الحميمية العائلية في النصوص ذات الطابع الوجداني، حياته موجودة بتفاصيلها الكبيرة وأناه كذلك بين كل سطر,،فاللغة تقود النصوص بخفة وانسيابية ومرونة ملحوظة، ثمة دائماً ما يشركك في نصوصه، بخيط من الغرابة المستأنسة، و بهلام من الصور التي تشبه موسيقا غرائبية مسكونة بألفة وأمان:

لا منأى لنا من اتساع الصحراء / لم تتلوث بالبخرة الصفراء / وبعيدة مرمى عن مؤخرة طاغية جديد / لا نفط ولا غاز ولا استثمارات حمراء بلون الأكفان / تجلب الغيد لخيمة لعرزال /  الرمال والنرجس لم تعد وردة مفضلة /  لا تنبت سوى في مواخير مخيلة الأرذال /  صحرائنا بقيت مخضبة بالأشواك / ندوسها  ونحيا حفاة بلا نعال.

لا يقتبس عويد عناوين مجموعاته من موضوعاته الشعرية، كل عنوان له استقلاليته ورهانه وفضاءه الدلالي، وكل نص له علاقات بنيوية محددة ومقسمة، لهذا هو أمام امتحان كبير في إقناع القارئ بما تحمله عناوينه، فالتحولات الكبيرة هي الثغرات نفسها التي تقف قدام الجملة وتعيق صخبها وتواترها، وإن بدا التحول هنا انتقالاً ملزماً لنص إلى نص ومحاولة اقتحام إلى صور أخرى، على الأرجح اللغة مشرعة إلى احتمالات كثيرة، على كل تبقى النصوص دلالات تتوق إلى الإعلان عن ذاتها، عن فضح حيوات جديدة بتقنية ومهارة ملفتة وهادئة.

 شاعر وناقد سوري  |  خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …