آخر المقالات
الرئيسية » نقار الخشب » «الراي» الأغنية الجريحة..شجن الهامش

«الراي» الأغنية الجريحة..شجن الهامش

 مقدمة:

طلع  “الراي” موسيقى وأغنية جريحين من عمق ثقافة جزائرية لطالما ركنته في عمق هامشها التراثي الشعري والمغنى، وكأنه المستغنى عنه، فلا يريدونه أن يسطع؟.

“الراي” منذ البدايات قال فاجعاً بمكاشفاته وكلامه الجريء، فاجعاً بحجم مأساة ما يعلى من عذابات، فطلع أغنية متذبذبة بقصائد شعر ملحون حفظه البسطاء، ولطالما ظل هو الآخر شعرا شعبيا تُلقيه شفاهيات المهمشين وحزانى ومهووسين في بادية الغرب الجزائري.

طلع بقصائد فحول شعرائه الشعبيين شعراً رائعاً، وفي حضن الغرب المتمرد ذاته، بغضبه وثوراته، والعاطفي بروحه وشعرائه، والجريء بمكاشفات المحظور، لعل المرأة أولى تلك المكاشفات، ليمضي بعدها ممتطياً لحن موسيقي مذهلة ترفع القافية والحزن، ومضى بما عرف به أغنية رايوية مثقلة بالشجن والقصيد الغاضب، وبمفرداته الدارجة من لغة عربية لا تنطق جيداً بين شفاه رواده، وأضحت حداثية النطق الرايوي المستجلبة من عذابات الآخر.

طلع من البادية إلى سموات سقف موسيقى العالم، أين أضحى مبهراً كما بداياته، جالبا للانتباه بآهات “شيخاته” الأوائل وشيوخه التابعين وشبابه الحزانى المتربصين بالجرأة والأغنية هادمين طابوهات لطالما أثقلت كواهل أيامهم، إلى أن أضحت أغنيتهم نموذجا للجرح المعلن وإنسانيته، فلا أحد يطيق إبقاءه شجنا للظل، هذا “الراي” الجزائري المقاوم.

الحلقة الأولى: ظل بواباته

“الــراي” أغنية جريحة بما ارتكب عليه من تهميش، وبما ادعى عليه من أكاذيب، وبما سلط عليه منذ البداية من ازدراء، وبما شنّ عليه من حروب ومشاريع إسقاطية، ثقافية الوجه بهتانية الروح.

ظهر طاغياً منذ بداياته واستمر كذلك منذ القرن العشرين، وقد مرّ بالكثير من المراحل التي أعطت له مزيدا من الصلابة والتشبث بما أعلاه مردّدوه الأوائل، وفي كل مرحلة كان يستفيد بما هو متاح ثقافي وحداثي، فلم يكتف بوقفة المتفرج أمام تراكمات الثقافي الموسيقي والشعري الجزائري، بل واكبه عبر تجلياته الكثيرة أيضا، وعبر تحولاته الغريبة منذ البدايات، ظل هو هو أغنية متأصلة ومتمردة لا تركع أمام التشويه والإحالات ومشاريع الظلامين الجدد الذين ناصبوه العداء بشكل مبين، عبر تاريخهم الطويل، وما يزالون كذلك؟.

و”الراي” أغنية جريحة بما غرس حولها من بهتان ثقافي لطالما عُلّب في قوالب الإسلاموية، كأكثر التيارات حرباً عليه منذ بداياته الأولى، فلم تهدأ يوماً وما تزال كذلك؟.

ومن الغرائب أن الإسلاموية الجزائرية وأغنية “الراي” يكادان يتصاعدان في خط  بياني جنبا إلى جنب، رغم ضراوة الحقد المتبادل وحروبهما؟، فمع أغنية “الراي” التي انفجرت كأروع الظواهر الموسيقية التي غيّرت كثيرا من العادات والطباع، انفجرت كبرى ومتفجرة بالكثير من المكاشفات الجدية، تلك التي أعلت نماذج المرأة والخمر وعذابات الهامش، فيما كانت هذه الموضوعات برمتها في مطلع سبعينيات القرن الماضي طابوهات تامة يمنع الاقتراب منها بمحاذير كثيرة، فلم يأبه “الراي” المتفجر حينها بتلك الطابوهات، بل تجرأ عليها وكشف سرّها العميق بالشعر والموسيقى. أغنية “الراي” في وهجها الأعظم  كان منذ خواتم الستينيات ومطلع التسعينيات كمرحلة كبرى، يمكن تقسيمها إلى مراحل صغرى بخصائص موسيقية وبتناولات شعرية في ظروف مجتمعية التصقت بمعاناة غريبة.

هذه الفترة الطويلة هي أزهى مراحله، وقد تجلت في غزارة إصداراته وألبوماته التي كانت تسمى في ذلك الزمان بالكاسيت الشريط، الذي استخلف القرص المغناطيسي القديم، كما أن ثقافة الانشغالات الموسيقية في توظيف البناء اللحني الرايوي كان على أشده، ولعل الموسيقار “صافي بوتلة” يأتي نموذجا لأولئك الموسيقيين الرواد الذين انشغلوا بعوالم “الراي” اللحنية وموسيقاه الخاصة، فلا سرّ في أن موسيقي “الراي” أخذت منحى الموسيقي الغربية في توظيفها للآلات الموسيقية الحديثة  وفي إعطاء الفسحات الصوتية الضرورية لمؤدي أغانيه الأوائل، فيما كان يعرف بشباب “الراي” الذين أخذوا شهرة عالمية ما يزال صداها يتردد إلى الآن، لكن الكثير من الكتابات المتناولة لأغنية “الراي” تكاد تتفتق على أن شيخات هذه الأغنية من النساء هن رواد أدائه الغنائي ومؤسسيه عند البدايات في الغرب الجزائري.

عموما كانت الثقافة الموسيقية الغربية وهواجسها وعوالمها العامة ملهمة “الراي” منذ البدايات، وظلت موردا لأغانيه وألحانه وعوالمه ومواضيعه العامة، كان هذا في جانبه الموسيقي لأن “الراي” في صلب أشعاره تركز منذ البدايات أيضا على الشعرية الطاغية للقصيدة الشعبية من الغرب الجزائري لفحول شعرائه وشاعراته، وعلى كل الشفاهيات الشعرية المتداولة في تلك الفترة بين الطبقات الشعبية، خصوصا المهمشين والفئات المكتفية بالظل، كما أنها الفترة المؤسسة للأغنية برمتها، والأغزر في بزوغ أسمائه من أولئك الذين أضحوا نجوما لعل خالد حاج إبراهيم أشهرهم على الإطلاق.

كما كانت الأروع في إبداعات مقاطعه الغنائية الأولى تلك البريئة والتراثية المفعمة بوهج الأصالة، والتي أكلها التكنولوجي الموسيقي الدخيل فيما تلا، والتجاري الرايوي الذي لعب دورا مهدما في كبح أصالته ودفعه إلى مستنقعات جمع الأموال لاسيما تجلياته المتأخرة، مقاطعه الغنائية الأولى التي خطت أولى دروب مسلكه الغنائي بروعة وأهّلته لأن يقف كما وقف فيما سيأتي هذه الأغنية، لكنها أيضا الفترة الأوغر طعنا في تاريخية الأغنية الرايوية بما حوربت وبما طالها من تهميش منظم كان رسميا معلنا وبأحجام مريعة؟، فلم يقتنع الثقافي الجزائري في تلك الفترة عند أواخر السبعينيات وما تلا هذا الظهور الطاغي لأغنية “الراي”، وبذلك “الحافز” الشعبي الذي لاقته في الأوساط الشعبية والشبابية خاصة، رغم مجهودات الثقافي الرسمي وقتها من تثبيث أغنية رسمية كانت تسمى ظلما بالأغنية الجزائرية لإقصاء الرايوية الجزائرية الطالعة من غرب جزائري ذي إرث مقاومات وأعاني جريحة، ليستمر كما بدأ منذ ذلك الزمن الرايوي الجميل مرورا بسلسلة مراحل زمنية ميزت هذه الأغنية في كل فترة، ولطالما التصقت بعذابات الناس ومآسيهم السرية، سواء ما تعلق بمغامراتهم العاطفية المرتكزة على شبقية أنثوية  سكنت “الراي” وما تزال، وهو الذي أعلى المرأة علوا كبيرا، فقد شكّلت هاجسه الأكبر ومحيطه الأوسع في تجليات جريئة قبل أن تخلط عليه العذابات الذاتية والإنسانية مضماره الآخر؟، وتتجلى في الكثير من التجارب التي أخذت تجلب الانتباه منذ منتصف الثمانينات إلى ما تلا “ملحمة الراي” التي أخذت في مراحله المتأخرة تعرف بشيء من الانتكاسية الرايوية، لعل ظروف كثيرة  مساهمة في إضعافه، وفي حصره، سنتناولها ضمن هذه الكتابة.

ولعل اسمه الذي طار في الآفاق مستقدما من بادية الغرب الجزائري إلى سموات العالم، هو أيضا يملك من الإبداع ومن الجرأة ما يحمله  “الراي” في سرّه؟.

“الراي” تسمية التصقت بأغنية وموسيقاها، نكاية في اشتغال يضرب في عمق الماضي، وبربط وثيق بالأغنية الرايوية الأولى المؤسسة فيما سبق، لعل تسميته سرّ عنفوانه، وهو الذي بدأ يشتهر على إلقاءات “شيخاته” من النساء اللواتي اشتغلن  بموسيقاه وسره الدفين.

…. يتبع ..

موقع قلم رصاص الثقافي

عن يسين بوغازي

يسين بوغازي
شاعر وكاتب وصحفي جزائري، يكتب في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية الجزائرية والعربية، صدر له كتاب توثيقي حول أغنية الراي الجزائرية (الراي..الأغنية الجريحة شجن الهامش).

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *