الرئيسية » نقار الخشب » أغنية الراي الجزائرية (6) “سولافاج مشرقي”

أغنية الراي الجزائرية (6) “سولافاج مشرقي”

مقدمة:

طلع “الراي” موسيقى وأغنية جريحين من عمق ثقافة جزائرية لطالما ركنته في عمق هامشها التراثي الشعري والمغنى، وكأنه المستغنى عنه، فلا يريدونه أن يسطع؟.

“الراي” منذ البدايات قال فاجعاً بمكاشفاته وكلامه الجريء، فاجعاً بحجم مأساة ما يعلى من عذابات، فطلع أغنية متذبذبة بقصائد شعر ملحون حفظه البسطاء، ولطالما ظل هو الآخر شعرا شعبيا تُلقيه شفاهيات المهمشين وحزانى ومهووسين في بادية الغرب الجزائري.

طلع بقصائد فحول شعرائه الشعبيين شعراً رائعاً، وفي حضن الغرب المتمرد ذاته، بغضبه وثوراته، والعاطفي بروحه وشعرائه، والجريء بمكاشفات المحظور، لعل المرأة أولى تلك المكاشفات، ليمضي بعدها ممتطياً لحن موسيقي مذهلة ترفع القافية والحزن، ومضى بما عرف به أغنية رايوية مثقلة بالشجن والقصيد الغاضب، وبمفرداته الدارجة من لغة عربية لا تنطق جيداً بين شفاه رواده، وأضحت حداثية النطق الرايوي المستجلبة من عذابات الآخر.

طلع من البادية إلى سموات سقف موسيقى العالم، أين أضحى مبهراً كما بداياته، جالبا للانتباه بآهات “شيخاته” الأوائل وشيوخه التابعين وشبابه الحزانى المتربصين بالجرأة والأغنية هادمين طابوهات لطالما أثقلت كواهل أيامهم، إلى أن أضحت أغنيتهم نموذجا للجرح المعلن وإنسانيته، فلا أحد يطيق إبقاءه شجنا للظل، هذا “الراي” الجزائري المقاوم.

سادساً: سولافاجا مشرقي وأغنية جزائرية؟

الأغنية الجزائرية تلك التي  كانت نموذجاً غنائياً معتمداً غداة الستينيات برموز وأسماء وبنية موسيقاها التي كانت شديدة الميل إلى الشرقيات حتى لا أقول المصريات؟ ولعلها كانت توازنات الغداة لكنها في الحقيقة كانت في أغنية عقود ما قبل الستينيات.

ففي تلك الفترة برز مصطلحٌ أضحى مشهوراً ولعل الموسيقار ʺمعطي بشيرʺ كان حامل  لواءه  وفق ما كان يراه، وكان بسلطات مقتدرة في التلفزيون والإذاعة الجزائريتين وكان لا يخترق بوابتهما سوى الذي ترضي به تلك  الأغنية الجزائرية؟

وهي أغنية  أعلت الشاعرية الجزائرية  بمورثاتها  وشعرها  الملحون وكانت فى الكثير من  تجلياتها  الغنائية  تليق بتسمية أغنية جزائرية، ومشكلتها كانت أنها محاصرة ذاتياً غداة وقبيل الستينيات في اعتمادها  سولافاجا مشرقيا ًحصرياً؟ وقد أحيطت بهالة من الأخلاقيات والديطولوجيات المفروضة من الأعلى؟ وهي ذاتها الأسباب التي جعلتها في متناول  ʺالرايʺ والذي وجدها  منافساً سهلاً مقيداً بمحاذير أخلاقية ومحددات أخرى من التابو وحتى الرمزيات المسيسة تتجنبها، فيما الأغنية الرايوية أسقطت كل شيء  فأضحت معبداً شمشونياً  للغناء  تحت قصف الجرأة شعراً و تلحيناً. ما مكنه  في زمن وجيز قليلاً ـ رغم الدومات الإنتاجية والمحاذير الأخرى التي كان فيه ـ أن يتجاوزها بسنوات ضوئية. وإن استجلابه إبداعياً كان ملفتاً فأضحى قضية غنائية بإسقاطات أخرى مما ساعده أكثر. ولعل الأغنية الجزائرية كانت تقدم للشعب برمته فلم تتمكن من الانتشار جيداً لمنافسين كثر، لعل الخصوصية الغنائية كانت عاملاً حاسماً فالشعبي للعاصمين ومالوف القسنطينين وللقبائل القبائلي والشاوي والسطايفي وكل الأنماط الأخرى.

وفي هده الفراغات كلها مجتمعة  دخل ʺالرايʺ  بهالة من الإبهار وتمكن أن يثبث إبهاره  فأرضى الجميع دون أن يطلب التنازل على خصوصياتهم الغنائية الأخرى، ولكن  لماذا ʺالرايʺ تمكن من هزيمة الجميع، أو بالأصح نال قبولهم باختلافات مناطقية وثقافية وعرقية؟ وتحديداً تلك التي  كانت تعرف  بالأغنية الجزائرية وأنه مصطلح خلقه  الموسيقار ʺمعطي بشيرʺ لم تستطع أغنيته الوقوف لا في جماليات بناءها، وأداءها وتقديمها، ولا في سرعة انتشارها محلياً ولا عالمياً، ولا في تناولاتها الموضوعاتية ولا في الأهم الانفتاحية  على موسيقي العالم، فقد ظلت أغنية  معطى بشير حبيسة السولافاج المشرقية ولنا عودة تفصيلة في كتابة تالية. وما ذكر  كله  مكن ʺالرايʺ  من الصعود بعزيمة وجرأة هاداً بزخمه الأغنية الجزائرية والأشكال الأخرى التي حاولت المنافسة فلم تطيق. هي إذاً محاذير عامة أسقطها ʺالرايʺ فناله المجد، وكأنه علم  بطبائع  ناسه وبنزوات أيامهم.

ظل  ʺ الراىʺ   موسيقى شغوفة  تطل على شرفات العالم  فيما اكتفت الأغنية الجزائرية بالتواجد ، ظل بما يحمله من جرأة  وبهالة محلية هي في الأصل العالمية بذاتها. فتراسل في ظلال الهامش  وبشاعرية  طاغية يومية وموسيقاه  بدت جديدة متجددة للمحبة والسلام، ففي في كل مرة يعتلى صهوات الحداثة فلا يقبل البقاء قيد منظور أحادي كما كان منافسيه، أغنية يتغشاها جموح للتحرر بالأداء والتعبيري برغبات الانعتاق الفائضة  من  نصوصه والمتفجرة  بنوتاته  التي أخذت تتأصل شيئاً فشيئاً فبقدر استغرابه كان يتأصل في  كان مكان.

وما يزال قسم شيوخه وشيخاته وشبابه الأقدمين والحاليين يقولونه باستذكار لكنه كلما سنحت فرصة لإبداء الإعجاب بما يفعلون؟ وسنقترب في هذه الكتابة من تفاصيله  وحكاياه  وعما  أهله أن يصير ما صار، أسطورة عالمية جزائرية  الوجه إنسانية  فيضه  ʺالرايʺ  الذي بدأ في بادية الغرب الجزائري محتشماً خجولاً منبوذاً، وأضحى موسيقي مكتملة بنيانها يجلس على  تراثية شعبه باسماءه وملوكه وأمراءه ونجوم شبابه، هم يزحفون  جميعاً  في استماتة تراثية  بملحون ʺمصطفي بن ابراهمʺ و غيره، مبهرين نحو الأعلى رغم طعنات  كانت وجروح وبقايا  جروح طعنات ما تزال.

وقف ʺالرايʺ   طوال مسيرته  وكأنه مقاوم بأغنيته الجريحة ومتمسك بها وكأنه يعلم أن التنازل عن جرأة قوله الأول  الملحون المغنى  والذي ما يزال يسمى بالأغنية البدوية  التي أضحت معه كياناً غنائياً آخر مكتملاً، وإن أبواب ʺالرايʺ المفتوحة على بحر الموسيقى كل الموسيقى، وانخراطاته الجريئة  وبراغماتيته في الاستفادة  من جميع  التيارات الموسيقية المتاحة جديدها وقديمها  وتوظيفه  لتكنولوجيات  الصناعات  الآلات الموسيقية العصرية بسرعة و إبداع؟ و كأنه  يعلم أن غده الغنائي  سيحسم رفقة تلك الآلات العصرية؟ كل هذا ساعده علة وقوفه وانتصاراته.

باختصار قلنا هذا الجزء  على  ʺالرايʺ ابن البادية وصبي أغنيتها  الأصيلة  المغضوب عليه، نشأ في السرية والهامش بين المنبوذين  والنوادي الليلة، وحمله أول ما حمله شعر شعبي ملحون بشقه الدس لطالما وصف بالمجان، منذ آواخر القرن التاسع برز ملحون شبقي ويكون ʺالرايʺ قد استعار منه  جرأته وقوله الجارح؟ واستمر  مدعوماً  من شيخاته ومن تلا، صبي  الأغنية البدوية  لم  يكن متصوراً اأه سيتجاوز الجميع صوب العالمية، بعدما استلمه من استلمه؟ ليستمر كذلك في فضاءاته الخلفية مند الأربعينات  نهاية السبعينات أين بدأ صناعة موسيقية رايوية  رفعت  وجهاً مغايراً هنالك على الساحل الوهراني والغرب برمته لتأتي أسماء أصبحت نجوماً  فملوكاً وأمراء  في مضماره.

وفي الخضم مند البداية كانت حروباً  معلنة  وأخرى سرية  تحاك ضده وفي  صراعه  الأبدي الذي ما يزال لتاريخ هده الكتابة  رغم أنه أضحى متخفياً  لصلابة ʺالرايʺ وقوته الثقافية وللواقعيات كثيرة في الموسيقى والغناء أقحمت الجميع.

ربما بتواطيء غرباء فالشركات المتعددة الجنسيات التي تفطنت له و حملته أغنية للعالم  لعبت في  وهج سطوته الكثير، لكنه بقي ʺ الراي ʺ وكأنه مقاوم لهم جميعاً.

 موقع قلم رصاص الثقافي

عن يسين بوغازي

يسين بوغازي
شاعر وكاتب وصحفي جزائري، يكتب في العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية الجزائرية والعربية، صدر له كتاب توثيقي حول أغنية الراي الجزائرية (الراي..الأغنية الجريحة شجن الهامش).

شاهد أيضاً

تمخط طوني خليفة فضرط زياد نجيم في المشهد

إن لكل عمل أو فعل نقوم به غاية، هدف، مغزى، معنى، وإلا ما قيمة ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *