آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » صناعة الرموز وقتل الأب

صناعة الرموز وقتل الأب

في بدايات تشكّل الوعي يكون الاستلاب تجاه كلّ منجز يطالعه الفرد هو ردّ الفعل الأولي له، بعد الدهشة. الأعمال المنجزة (رواية، قصة، شعر، سينما…إلخ) هي بالنسبة للمراهق تلك الأحلام البعيدة التي يتطلع إليها. الكتب الأولى، كما الأفلام، والأغنيات، والموسيقى الأولى. هي بدايات الوعي التي تذهب بالفرد للتماهي مع صانعيها، في محاولة منه لاجتراح شخصيّته الخاصة التي تأتي على هيئة مزيج من كلّ تلك الشخصيات التي يتماهى مع منجزها. غير ما أنّ ما يبقى عصيّاً على إدراك مراهق، في طور التشكّل، هو أن ما يوضع بين يديه لم يكن نتاج صدفة، أو نزولاً عند رغباته وحاجاته، وإنما نتاج عمل سلطات ثقافية اجتهدت لتكريس أسماء بعينها، ولن يخرج من إطار شبكتها (العنكبوتية) إلّا قلّة من الأشخاص المحظوظين الذين يعيشون مراحلهم الأولى كأيتام، لا آباء روحيين لهم.

*****

يكفي أن يحوز كاتب أو فنان على جائزة من جهة مكرّسة كسلطة ثقافية، أو تنويه من إحدى لجانها، لتفتح له بوابات السلطات الثقافية المعنيّة (وسائل إعلام، دور نشر، مهرجانات…إلخ)، فتتلقفه كحالة استثنائية، وتسعى جاهدة لتكريسه في اللاوعي الجمعي كرمز (ثقافي، فني، فكري…). و يسهل تحويله، في عصر الصورة، إلى نجم، خاصّة إذا ما تمتع بمهارة العلاقات الإجتماعية، لتسويق نفسه كسلعة رابحة في السوق الثقافية. بعد ذلك سيترك الأمر لجمهور كبير مستلب، ليبني حول هذا المبدع الكثير من الحصون التي يصعب اختراقها، وبذلك تتشكّل حوله هالة من القداسة تحيل من يجرؤ على انتقاده إلى مجدّف.

*****

لا يصنع الرموز أنفسهم. إنهم فقط يتماهون مع ما يختلقه جمهورهم عنهم.

*****

لا ينظر الرمز الثقافي إلى جمهوره كقرّاء أو متابعين، بل هم مريدون وأتباع. ولذا سيجد نفسه محصناً من محاولات الدفاع عن نفسه إذا ما تجرأ أحد على المسّ بهالته المقدسّة، وسيكون ثمّة جيش من المريدين مهيأ للدفاع عن صورته الخاصّة في صورة رموزه.

*****

قلّة من المبدعين العرب حوّلتهم أعمالهم (عن جدارة) إلى رموز. لا يختلف هؤلاء في تعاطيهم مع رمزيتهم عن سواهم ممّن لفّقت السلطات رمزيتهم. غير أنّ انقلاب الأبناء عليهم، لحظة يحين موعد قتل الأب، يكون أكثر شراسة. فهنا يقرّر الأبناء قتل الأب بتسفيه منجزه، الذي طالما كان بلوغ شيء منه أقصى طموحهم. في حالات كهذه يأتي قتل الأب أشبه بانتحار، يتطلع فيه الأبناء إلى موت يعفيهم من المساءلة عن إمعانهم لسنوات طويلة بالتماهي مع رموزهم، ومحاولة محاكاتها بكافة الأدوات التي يمتلكونها. هي لحظة فشل عن بلوغ ما يصبون إليه، تحولهم إلى قتلة دون رحمة، تحت ذريعة أن الأب لم يتبن أفكار أبنائه (الوليدة)، ما يشي بجهل هؤلاء عن ماهيّة الرمز الذي صنعوه، ويفضح قصورهم في قراءة منجزه. فما يأتي به الأب اليوم ليس وليد لحظته، بل كان حاضراً في طيّات كتبه وأعماله، التي يحفظها الأبناء، ويرددونها منذ سنوات بشكل يتضح في هذه اللحظة أنه لم يكن غير تكرار ببغائي للشكل بعيداً عن المضمون. ينسى هؤلاء أن قتل الأب لا يعني مطلقاً أن تطلق النار عليه، ومن ثمّ تمضي وقتك تسلخ جلد جثته، متجاهلاً أنّ حجم منجزه (الذي هللت له ورفعته إلى مرتبة القداسة) يفوق وزنك المادي والمعنوي بأضعاف. الآباء الذين ينتمون لهذه الفئة (على ندرتهم)، لا يلومون أبناءهم على ما يقومون به، بل ينظرون إليهم كمتمردين يسعون لخلق صوتهم الخاص، ولذا فإنهم يبقون مرتاحين على عروشهم يبتسمون ساخرين من سذاجة الأبناء.

*****

حين يفاجئك أحد آبائك بفعلٍ يفوق قدرتك على تصديقه، تذكّر أنّك من هتف باسمه، وخلق هالته، ولا بأس من الإعتراف بقصور قراءتك لمنجزه، وبالتالي جهلك بما كنت تهتف له.

*****

قتل الأب لا يكون بتسفيه منجزه، والتنكّر لأفكاره التي ساهمت بتكوينك، بل بالإتيان بعمل يفوق منجزه، والتأسيس لخطاب جديد، مع احتفاظك بالاحترام للولد الذي كنته حين بهرك منجز هذا الأب.

*****

تسهل أسطرة الرمز بعد موته. وغالباً ما يأتي ذلك عبر تضخيم منجزه، ومنحه أبعاداً ما كان ليفكّر بها، ولا كان المريدون يتجرأون على إجهارها في حضرته. هو شكلٌ مختلف لقتل الأب بطريقة معكوسة، عبر تأويل منجزه وفق رؤيتهم وتمنياتهم، أو عبر فرضيّات حول موقفه من قضايا إشكاليّة طرأت بعد رحيله. هي محاولة بائسة لتضخيم الذات وتبرئتها من خلال تضخيم الرمز، وتحميله أسباب ما نفكّر ونقوم به اليوم، هنا تبرز عبارات مثل: “مازلنا نسير على نهجه”، “نعمل وفق ما علّمنا إياه”، “نتبع أفكاره الحاضرة بيننا والتي لا تموت”… إلخ من العبارات التي لا تحتمل أكثر من كونها اقتياتٌ على جثّة الرمز، بغية منح الذات شيئاً من أسطرة تمّ تلفيقها له، وآن أوان استعادتها.

*****

في الثقافة، لا يلد الآباء أبناءهم. الأبناء يلدون الآباء ليقتلوهم حين يقررون التحوّل إلى مسوخ آباء، توهمهم وسائل الإعلام بإمكانية وجودها.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن رامي طويل

رامي طويل
قاص وروائي وسيناريست سوري من مواليد 1974 صدر له: القصة القصيرة: مجموعة بعنوان "الخاتم" عن هيئة الكتاب في سوريا 2008 مجموعة "قبل أن تبرد القهوة" عن دار الساقي في بيروت 2015 الرواية: "رقصة الظلّ الأخيرة" عن دار الساقي في بيروت، 2013 "حيوات ناقصة" عن دار الساقي في بيروت 2017.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *