آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » خربة العنز (2)

خربة العنز (2)

كرنفال إعجاز الثغاء:

شعرتُ أنني وسط  لجّة  في ضباب أشهب كثيف.. تهتُ عن نفسي  ريثما استردني ثغاء الأستاذ تيس سات قائلاً : خطوتك مباركة اليوم لدينا مؤتمر مركزي تاريخي بمناسبة اكتشاف معجزة كونية أبدعها الجدْي الحجّاج فاقع لونه ربيب حصان إبليس يسرّ الناظرين، سألته مذهولاً: ما المعجزة.. قال بتيسنة: كان هنا في الطابق الخامس، وأشار بيده إلى بقايا زجاج نافذة مهشمّة لوحة لدالية الطريق مرسومة بالدهان الأخضر، نطّ الجدي الحجاج  نطةً هوائية بمقدار خمسة عشر متراً وقضم  الدالية الزجاجية .. أليست أعجوبة تفوق كلّ  عجائب الدنيا  السبع..

نسيتُ أن أضحك، قلت لنفسي: أحدهم هشّم الزجاج بحجر.. أو صاحب المكتب لغاية في نفس يعقوب.. تابع الأستاذ تيس: وكان هنا في الدرج مبالغ من تبرعات أهل خربة العنز  لبناء مسجد، ولأنها رزم خضراء أكلها الجدي الحجاج.. لم نزعل على المال.. هو فدى للجدي الحجّاج الذي حقّق هذه الأعجوبة، تمتمتُ: وما الدليل أن الأمر  فعل جدي، ابتسم بسخاء، وقال: وجدنا بقايا من شَعْر الجدي علِق بالزجاج وتناثر بعضه على الأرض والدرج، وأخذنا عينة، ورحنا نفتّش عن  الجدي،  فاكتشفنا أن جدْياً مقدساً منتوف بعض شَعْره..

لم أنس أن أضحك لكن ما ضحكتُ… طلب اصطحابي إلى رواق الاحتفالات.. رافقته.. دخلنا قاعة كبرى.. لكن اللافت للنظر.. أنها واسعة جداً إلا أنّ ترتبيها غريب جداً فقد نقلوا كلّ الكراسي إلى خلف المنصة الرسمية التي تلقى منها الكلمات إلا كرسياً واحداً بقي كشعرة يتيمة في صلعة ملساء قرعاء… قبل أن أستفسر.. بدأ المعنيون يدخلون ويجلسون في الكراسي المزدحمة خلف المنصة وكانت الفرصة مواتية لمعرفتهم فقد عرّفني بهم الأستاذ تيس بسرعة واقتضاب.. الزميل الأستاذ زهلول.. الزميلة  عرفاء.. الزميلة الزميل عفواً الشرنة غيت،  الزميلة اللقلاقة.. الزميلة العنزة المميّشة..الزميل الأستاذ  حصان إبليس.. الزميلة  سندبيلا..

تمترسوا في كراسيهم، وراحو يتبادلون الابتسامات الصفراء وإيقاع الكيد يرن فيها.. انتظرت أن يدخل الحضور.. لم يأت أحد.. سأل الأستاذ تيس زملاءه أن يبدأ.. وافقوه.. نادى على المستخدم فجاء مسرعاً اتخذ الكرسي اليتيم الوحيد أمام المنصة.. ذهلتُ، تُرى هو المحاضر.. لكن زال عجبي حين اعتلى  الأستاذ حصان إبليس المنصة أمسك بالميكرفون وبدأ يرعد : مرحباً بكم  مرحباً.. ليست الأرض وحدها تنبت الأشجار عندنا.. والزجاج كذلك مرحباُ أيها الحفل الغفور.. صرخ الأستاذ تيس بالمستخدم.. ألم تسمع يا جمران صفقْ صفقْ يا بني آدم.. لكنني ضحكتُ.. 

إذن المستخدم جمران هو وحده الجماهير الغفيرة..  صفّقَ المسكين بيديه ورجليه… وتابع الأستاذ حصان إبليس:  أيها الحضور الكريم.. تكاتفوا  الكتف على الكتف والعقب على العقب العبرة ليست بأصابع الأقدام.. استووا يرحمني ويرحمكم الله.. سدوا الفرجات بينكم لكي لا يدخل الشيطان منها وأنتم أدرى بأن الشيطان يتشبه بالعنز.. كان المسكين جمران يتصرف وكأنه فعلاً يتكاتف مع أشباح.. ورندح الأستاذ حصان إبليس: احتفالنا التاريخي تكريم للجدي الحجاج الذي أكل الزجاج بإلهام فريد وحاسة عنزية سابعة حيث اهتدى إلى أكل الأخضر زجاجاً ودولاراً وحقّق معجزة أزلية.. وبهذه المناسبة الفلكية سأتلو عليكم هذه الومضات الشعرية:

ماءءءءءءء… ماءءءءء….. ماءءءءء

مَن أكلَ شجر الزّجاج والفلوس الخضراء

بلا ماء.. كلّ الهواء بجيبي.. لكن لا بحراً  في العراء

لأثقب القارب بموجة زرقاء

الجب فوق الجب ويوسف بدهاء 

أوقع السيارة بالجب وأخذ الدلاء

 قطع صحراء الهواء فامتلأ الدلاء بهلام

 وزعقتْ فجأة  أنا زليخة يا يوسفاء

 .. ماءء ماءء.. لا هواء عندي ولا ماء..

 وجاء المدد قال: ابشرْ.. شدّ إليك  شَعْر عنزة حتى الثغاء يتشقّق من بين يديك الماء… ماء ..

 والسلام عليكم  ورحمة الله، واسمحوا لي أن أقدّم لكم الأستاذ واوي الجنّ مبتكر نظرية الثغاء دواء، ليقدّم لنا محاضرة مجهبذة عن كرامات الجدي الذي حوّل الدولارات إلى نتروجين في الهواء.. عفوا أعتذر عن الجدي الذي أكل الزجاج … صفق جمران حتى ثغتْ كفّاه..

خرج الأستاذ واوي الجن وبدأ المحاضرة بقوله: أمّا أن تسألوني كيف للجدي  أن يأكل الزجاج فسؤال هراء.. أقول بعض  السؤال إلحاد: أنا انسلختُ من نفسي كما تنسلخ الحيّة من جلدها، ثم نظرتُ إلى ذاتي فإذا أنا جدي بكامل أبهة القرون يصرخ متى أضع العمامة تعرفونني..  سألته مَن أكل الزّجاج.. قال : كنتَ لي مرآة فصرت أنا المرآة.. انظر كيف تسلقت الهواء و التهمت الزّجاج.

مَن أكل الزجاج لا أقول إلا كما قال  مولاي  أبو يزيد البسطامي:

رفعني الله مرّة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبّون أن يَرَوْك، فقلت:زيّني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحّديتك حتى إذا رآني خلقُك قالوا رأيناك، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك.

وما دمت أنا بجَدِّي البسطامي  وجَدِّي بي..  فأنا هو.. وإذا كنت هو فلا حقّ لكم بسؤالي..  إشارتي تكفي.. الجدي أكل الزجاج  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وضجّت القاعة بالتصفيق، ولم يكن جمران وحده الذي كان يصفق بل شاركه الجميع، وكان أشدهم تصفيقاً الأستاذة الشرنة غيت التي لم تلبث أن نطّت إلى الميكرفون، وتهدّجتْ: هو.. هو … هذا الذي هو قال عنه الحلاج رشا:

يا نسيم الروح قولي للرشـا  لم يزدني الـِورْد إلا عطشـا

لي حبيبٌ حبّه وسط الحشـا       إن يشا يمشي على خدّي مشا

روحه روحي وروحي روحه إن يشا شئتُ وإن شئتُ يشـا

ولم تلبث العنزة الشرنة غيت أن صعدتْ فوق المنصة وراحت ترقص  الرقصة الصوفية وهي تردّد: الله الله  الله، وجمران في مكانه يدبك ويردد :

 بعثت لك محرمة  لوحي بها لوحي

 بعثت لك محرمة …ابعث لي اثنتين حي

..وحدة لربط الخصر وحدة لمسح العين ..

سمعتُ العنزة المُمَيّشة تهمس وكانت بجانبي: العمى لقلب الشرنة  ما أكذبها أمس في حلقة الذكر حين أغمي على صبية من شدة الحال.. ادعت أنها ستوقظها، فسرقت من رقبتها طوق الألماس، وحين استيقظت الصبية، وافتقدت الطوق بكت ،وقالت:  سُرق طوقي، ردت الشرنة اسكتي اسكتي أعوذ بالله الملائكة أخذتها منك لتخلصك من فتنة الدنيا ومتاعها..

بقيت العنزة الشرنة مستغرقة في الحال حتى سقطت مغمياً عليها، فنادى الأستاذ تيس سات.. جمران  هات كأس ماء.. ردّ جمران:  لا أنا الجمهور،  تريد  الجمهور كله يخرج ليجلب لكم ماء..  عضّ  الأستاذ تيس على شفتيه  متمتماً: تقمّصتَ الحال يا جمران  بيك.. ثم التفتَ إلى العنزة المميّشة، وقال بتردد : أستاذة  العنزة المميّشة بلا أمر عليك أنت الصغرى أسعفيني بكأس ماء…  ردّت العنزة الممّيشة بنزق: من فضلك أنا غزالة.. وتمتمت: أعمى بصر والبصيرة، كل هذا الميش لا تراه.. وقالت أنا أوقظها.. وخرجت إلى العنزة الشرنة وتبعتها عرفاء جيئل وحصان إبليس وتيس سات وتمتمت بأذنها كلمات ثم صفعتها كفاً شديد اللؤم  ماج لصداه  الفرات  فقامت الشرنة  واتكأت على عرفاء والعنزة المميشة عفواً الغزالة.. فصفق الجمهور ممثلاً بجمران، وقال: ألست الجمهور أنا..  يا سادة

تمتم الجميع: ونعم الجمهور … قال جمران :   هناك دائماً رضوخ لما يطلبه الجمهور و لا أحد أحسن من أحد.. مثلما هناك ما يطلبه الجمهور يجب أن يكون هنا.. لذلك اسمعوا: أنا جمران من خربة العنز. أطلب  كلمة الأستاذ زهلول  وأهديها لخالتي تمرة في  مخيم البليخ  مع تمنياتي لها بالنجاح بـ  الأي س يدي إل ، كما أهديها لجارتنا أم عزو  شمال الفرات، وبمناسبة المولود الجديد، وأهديها لصديق العمر في باب توما قضاء بلجيكا بمناسبة  تغيير الغلاف على صفحته.. 

صرخ  الأستاذ تيس: كفى  سنلبّي طلبك تفضل أستاذ زهلول.. خرج الأستاذ زهلول أمسك بالميكرفون.. وصمت..  بينما كان جمران يرقص ويغني: زيّنوا الخربة والخربة لنا عنزنا فرجة والله مزينة. قال حصان إبليس: تفضل ابدأ أستاذ زهلول.. ردّ أستاذ زهلول: أنا نظامي لا أبدأ إلا على صوت دقات بغ بن .. ترى موجودة مراسلة البي بي سي.. ومونت كارلو.. صرخ  جمران: بيض وجهنا أستاذ زهلول الزمن زمن الجزيرة والسي إن إن أنا المستخدم  صرت أعرف وأنت.. قاطعتهم  عنزة غيت وقالت: أنا أحبّ على قلبي ألا تفوتني أغنية يا مسهرني بصوت الأستاذ زهلول .. ضحك الجميع، خجلت وقالت : عفواً سقطت الفكرة سهواً خطأ ذهني أعتذر أقصد ألا تفوتني مداخلة  الأستاذ زهلول القيمة لكن مضطرة جداً للخروج.. وتابعت الأستاذة عنزة غيت وفي هذه الفرصة التاريخية أتقدم لكم بمشروع رائد لخربة العنز .. سأتبرع بتعليم الجديان والسخلات مهارات استعمال الفوتوشوب بالكمبيوتر ، واخترت الجديان والسخلات لأنهم جيل مستقبل خربة العنز، أما التيوس والعنز راحت عليهم..

احتج  الأستاذ واوي الجن قائلاً : نحن الأصل ومَن لا تيس له لا جدي له.. وصرخ  الأستاذ تيس: قتل الآباء سياسة عنصرية.. بفضل تيوس خربة العنز  ما بقي بين الرقة ودير الزور شجرة إلا عريانة… على مفرق جاسم والصنمين  كم ناطحنا الغبار.. خرجت عنزة غيت.. تكلّم الأستاذ زهلول: يا أخوة العنز .. نناقش فكرة الأستاذة  عنزة غيت في جلسة طارئة ونرفعها إلى مجلس الأمن، وإذا استعمل حقّ الفيتو نطالب بحقوق القرون الدولية.. ونحن لن نسكت سننطح  قلقه الدائم.. زعقت  العنزة المميشة: طوقي الذهبي  سُرق، وراحت تنوح لا تقولوا: الملائكة استعارته والله ما في ملائكة تدخل إلى هنا.. ردّ الأستاذ زهلول: استغفري الله أستاذة أم الميش.. صرخت من فضلك أستاذة غزالة.. أستاذة غزالة عندكم عمى ميش وغزلان… المهم أن يرجع  طوقي الذهبي.. أصدروا فرماناً بالتحقيق مع الملائكة .. صرخت عرفاء جيئل  .. لا يجوز لا يجوز   وراحت تهزّ بمكانها وتردد: الله الله الله .. صرخت العنزة المميّشة أستاذة عرفاء  لا تمثلي لتسقطي لو مت متِّ  لن أوقظك..

ردت عرفاء: أعوذ بالله  يا أم الميش.. صرخت أمّ الميش: من فضلك   غزالة عمى ميش إن شاء الله…  الله الله وتلطشي السوار .. وخرجت مسرعة..

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن د. خالد زغريت

د. خالد زغريت
كاتب وأكاديمي سوري، إجازة في اللغة العربية، دبلوم دراسات عليا شعبة الأدبيات، دبلوم تأهيل تربوي، ماجستير في الأدب القديم وعلم الجمال، دكتوراه في الأدب القديم وعلم الجمال. يعمل مدرساً في كلية الآداب. ينشر في الصحف والمجلات والدوريات. له عشرون بحثاً علمياً محكماً في الدوريات العربية والدولية وعدة كتب منشورة منها: قامة النار وخريف السيدة الأولى، أهرامات السراب، الصفير في وادي الشياطين.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *