آخر المقالات
الرئيسية » حوارات » حوار مترجم مع أمين معلوف: يقتضي الوضع فورية الوعي بالأخطار المحدقة

حوار مترجم مع أمين معلوف: يقتضي الوضع فورية الوعي بالأخطار المحدقة

ترجمة: سعيد بوخليط  |

تقديم: نتيجة اجتياح الديانات للسياسة، الانحرافات الهوياتية، الاختلالات البيئية،تدفُّق الهجرات،وكذا مختلف سباقات التسلح…أمام عالم تائه، يحذرنا الكاتب أمين معلوف، عضو الأكاديمية الفرنسية، مؤكدا على ضرورة تشييد مستقبل يرتكز على القيم الجوهرية، دون القطع تماما مع الماضي.
وفق هذا المنحى جاء عنوان آخر إصداراته عن منشورات غراسي: “غرق الحضارات”. إشارة لا توحي بتفاؤل مطمئن. لقد كشف الأكاديمي المنحدر من أصل لبناني، ضمن أشياء أخرى عن “قلقه بخصوص تلك المثل العليا العامة التي حرضت فترة شبابه، لكنه افتقدها خلال فترة خريف عمره، بحيث صارت تعاني الإذلال وفقدت حظوتها: الكونية، المعنى التصاعدي للتاريخ،التدفق المتناغم للثقافات، توافق القيم، وكذلك تماثل كرامة البشر”. أيضاً خوفه من رؤية زوال كل مايمنح معنى للمغامرة البشرية”. لهذا يرفض صاحب جائزة “غونكور” الاستسلام لليأس، مادام ”الأسوأ ليس دائما قائما”. كما أكد في القرن السابع عشر،الشاعر كالديرون دي لاباركا.لكن، يلزمنا المبادرة وبشكل سريع، إن أردنا تجنب الغرق.

ـ بعد أن بادرتم إلى التحذير، في عمليكم السابقين (الهويات القاتلة ـ اختلال العالم) من قضية الإنهاك الذي تعانيه حضارتنا، ها أنتم تؤكدون اليوم أنها بصدد الغرق. فما الذي تفاقم؟

حاولت في الهويات القاتلة، الصادر سنة 1998، التنبيه بخصوص ما يوشك أن يقع ونحن نعطي مجرى حراً إلى الانحرافات الهوياتية. أما مع كتاب اختلال العالم الصادر سنة 2009، إبان بداية حقبة أوباما، فقد وصفت وضعية لازالت تشغل الاهتمام أكثر، وتطلعت وقتها إلى إمكانية أن يشكِّل وصول الرئيس الأمريكي الجديد، يقظة. لكنها أوهام، تلاشت منذئذ. نلاحظ، في الوقت الحالي، تفاقم تأثير التأكيدات الهوياتية على مختلف المجتمعات البشرية. لم يبق شيء كبير من النظام العالمي الذي توطد بعد سقوط جدار برلين. مما أحدث تداعيات شملت آثارها الكون قاطبة. بينما يمتحن المشرق،منطقة انتمائي الأصلية، اضطرابات غير مسبوقة، تواجه أوروبا وكذا باقي العالم أزمة جسيمة جدا. نزوع نحو التجزئة والتحلّل يباشر عمله، بوسعنا تلمس نتائجه على كل المجتمعات الإنسانية. نقف مثلا على البريكست وآخر يتمثل في انهيار الأخلاق الذي يجتاح الولايات المتحدة الأمريكية مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

ـ ما الذي يميز حاليا”روح العصر”،المفهوم الذي تحيلون عليه باستمرار؟

ـ “التيه” بمثابة الوصف الأول الذي يقفز إلى ذهني. نحتاج وسط عالم بلا معالم مرشدة، إلى بوصلة سياسية وأخلاقية جديدة. كان بوسع الولايات المتحدة الأمريكية، التي صارت القوة العظمى الوحيدة بعد نهاية الحرب الباردة، أن تهيئها لنا، لكنها بدت عاجزة عن القيام بذلك؛ وأوروبا، التي امتلكت الصفات الرئيسة كي ترفع التحدي، عجزت بدورها. توجد بالتأكيد، قوى صاعدة أو” منبعثة ثانية”، مثل الصين، الهند أو روسيا، والتي تلعب دوراً عالمياً جوهرياً. لكنها لازالت تفتقد إلى رؤية متكاملة بوسعها اقتراحها على بقية العالم. لقد أدركت البشرية مرحلة مفارقة: نعيش عصراً ذهبياً من الناحية العلمية والتكنولوجية، في المقابل لانعرف طبيعة وجهتنا، بحيث نظهر في الوقت الراهن عاجزين عن مواجهة التحديات الكبرى، مثل الاضطرابات المناخية، وكذا تدفق الهجرات أو السباق الجديد نحو التسلح.

ـ تظهر في الغالب بعض الكلمات تحت مداد ريشتكم: ارتداد، إخفاق، قلق…فهل ”كان الوضع سابقا أفضل”؟

ـ حتماً، ليس كذلك! تبهرني التطورات العلمية، وتسحرني هذه الحقبة الاستثنائية التي نستحضر معها بلمسة من أصابعنا كل المعرفة البشرية. لا أحلم بالعودة إلى حقب انصرمت، بل العمل على ارتقاء ذهنيات معاصرينا نحو المستوى الذي يقتضيه العلم والتكنولوجيا في زمننا. لا أضمر اشتياقا إلى الأزمنة الماضية، ولو كنت أحن إلى بعض لحظات التاريخ التي تجلت معها التجارب الأساسية. أفكر في الإمبراطورية النمساوية ـ الهنغارية كما وصفها ستيفان زفايج، وكذلك منطقة الشرق إبان طفولتي،حيث تعايشت شخصيات من مختلف الأصول والاعتقادات جنباً إلى جنب؛ وكان بوسعهم تأسيس مجتمع متناغم، ويقدموا إلى العالم قاطبة نموذجاً للتعايش الخصب.لكن للأسف، تكشف اليوم منطقتي الأصلية إلى العالم، مشهدا آخر.

ـ أوضحتم بأن المثال الأعلى الكوني أخلى مكانه للاحتقان الهوياتي، رغم علمنا بأنه يقود نحو الفوضى. فهل ينبغي القول أننا لانستفيد قط من التاريخ؟

ـ لا أظن أن التاريخ يتدبَّر لنا خلاصات بديهية، بل يبقى منفتحا على العديد من التأويلات. يرويه كل واحد منا بالطريقة التي تناسبه، ولا أخالف بالتالي ثبات القاعدة، فكتابي بمثابة تأويل لتاريخ السنوات الستين الماضية، الحقبة التي استسلمت إبانها لشغفي، المتمثل في ملاحظة وقائع العالم دون ضجر. يأتيني ربما هذا الشغف من الوسط الذي ترعرعت فيه، تحت كنف والد يمارس الصحافة، ويتابع عن قرب مايجري.

ـ بماذا تجيبون الذين يعتبرون الثقافة الإسلامية تناهض بشدة كل أشكال الحداثة،لذلك غير متوافقة مع “ثقافتنا”

ـ أنا لست مختصاً في الإسلام، أستند فقط على تجربتي الشخصية، تلك المرتبطة برجل خَبِرَ عن قرب العالم الإسلامي دون انتمائي كليا إليه، مادمت أنحدر من أسرة مسيحية، موزعة بين الكاثوليك والبروتستانت. من الواضح أن المجتمعات الإسلامية نزعت خلال القرون الأخيرة، نحو مزيد من التصلب العقائدي والتعصب. لكنها وإن عرفت تحولا من هذا القبيل، فمن المحتمل أن تعيش تغيرا مختلفا صوب الاتجاه المقابل خلال العقود المقبلة، نحو تأويل للنصوص أكثر انفتاحا، وتصالحا وحداثة.

ـ ما الذي تسعى هذا الهوية الدينية المتبلورة على نحو قوي أكثر إلى إرضائه أو تعويضه؟

ـ جاءت لتعويض القومية العربية، التي تلقت ضربة قاصمة بعد الهزيمة المفاجئة لمصر جمال عبد الناصر أمام إسرائيل خلال حرب 1967، والتي دأبنا على تسميتها بحرب”الستة أيام”. انطلاقا من تلك اللحظة انغمس العرب في اليأس، ولم يتمكنوا قط من صعود المنحدر ثانية. كان عبد الناصر رمزا كبيرا في العالم العربي وكذا بالنسبة لمجموع العالم الإسلامي. لذلك خلق فشله فراغا، وشكَّل إحدى أسباب صعود التيارات الإسلامية، التي ظلت هامشية جدا قبل 1967، لكنها منذ الهزيمة، بدأت تحظى بالأهمية. وبما أن فشل القومية العربية، أعقبه سنوات بعد ذلك، فشل الشيوعية، فقد استطاعت الحركة الإسلامية أن تستعيد لحسابها الطموحات القومية وكذا المطالب الاجتماعية، كي تصبح بكيفية ما، حركة سياسية ”متكاملة”، تحوي مختلف تطلعات الشعوب، مستندة على اعتقادات دينية مترسخة بشكل متين داخل العقول. أما شهادة الميلاد الرمزية عن تأسس الإسلام السياسي، فتحيلنا إلى سنة 1979 مع نجاح الثورة الإيرانية. خلال تلك السنة أيضا، شهد العالم اضطرابات أخرى أساسية. كما لو بدأ “فصل جديد” بالنسبة للبشرية قاطبة. ناقشت في كتابي، مسألة ”انقلاب كبير”،تبلور معه في الشرق والغرب، نوع من “التيار المحافظ”، غَيَّر مسار التاريخ.

ـ تنحدرون من منطقة معروفة جدا بنزاعاتها الدينية. هل تعتقدون بناء على الوضعية الحالية، في إمكانية أن نترقب من الأديان العمل على الارتقاء بالإنسانية نحو الأعلى؟ 

ـ مصدر مختلف الكوارث الكبرى للقرن العشرين تلك الإيديولوجيات المناهضة للدين بشدة، مثل الستالينية، النازية أو الفاشية. ثم عرف القرن الواحد والعشرين عودة قوية للدين إلى مضمار الحياة السياسية. يظهر الأمر بوضوح في العالم الإسلامي، لكنه يتجلى أيضا في أمكنة أخرى. قناعتي الشخصية بهذا الخصوص، أن البعد الروحي ضروري لكل المجتمعات البشرية، شريطة عدم ظفره بأهمية زائدة عن اللازم. تكمن إحدى التحديات الأساسية لعصرنا، في مدى نجاحنا بخصوص فصل الانتماء الديني عن أسئلة الهوية، وهي ليس فقط مهمة المسؤولين الدينيين، ولا المؤمنين. بل يلزم المجتمع برمته المساهمة في هذا المجهود المرتكز على صيانة البعد الروحي، دون السماح مع ذلك للدين باقتحام مختلف مظاهر الحياة السياسية، الفكرية والمجتمعية. ستكون معركة من هذا القبيل صعبة وطويلة الأمد داخل العديد من المجتمعات البشرية وبالأخص في العالم الإسلامي.

ـ ما الذي ينبغي أن يشكل مقدسا، في وضعنا الراهن، وحول أي شيء يلزمنا التآلف، لاسيما بالنسبة للغرب حيث يظل حيز الروحية ضئيلا؟

ـ بالرغم مما يظهر،أشعر بأن الروحية حاضرة اليوم أكثر في الغرب مقارنة مع العالم الإسلامي. بالنسبة للأخير، أصبح الدين وسيلة في يد السياسة، وتشوه نتيجة الاعتبارات الهوياتية. يمكن لأوروبا أن تقدم انطباعا بكونها قطعت نهائيا مع الدين، وأنا لا أرى الوضع كذلك: الهواجس الروحية والجمالية حاضرة في الغرب، ضمن قطاعات واسعة. وإذا كان اليوم الدين أقل تجليا مقارنة مع قرنين أو ثلاثة قرون مضت، فإنه مدعو كي ينهض بدور أكثر شخصية وحميمة، وهو في اعتقادي مسألة رائعة. من الأفضل عدم تداخل مجالي الدين والسياسة، وإلا فإنهما سيعانيان معا.

ـ النتيجة التي ترصدونها مثيرة للخوف، مع ذلك،يتضح العكس مع مفكرين، مثل الأستاذ ستيفن بينكر من جامعة هارفارد، من خلال تأكيدهم بأن كل شيء يسير من حسن إلى أحسن، ويبقى منسوب العنف حاليا الأضعف مقارنة مع الماضي، فالأرقام تؤكد ذلك. 

ـ هذه الأطروحة مهمة ولا أعترض على الأرقام التي أدلت بها. فيما يخصني، أشعر بالرعب بسبب إمكانيات التدمير التي صارت رهن إشارتنا ويمكن أن توظف في يوم من الأيام. إذا نزع أسلافنا المنتمين لفترة ماقبل التاريخ نحو إخافة المقتربين منهم بدقات هراوات كبيرة، فقد كان الخطر عند الكائن البشري، فاقدا للمعنى. وضع اختلف،مع صيرورة عصر الأسلحة النووية، الكيميائية أو الجرثومية. وسط عالم تسوده الأنانية المقدسة وكذا هيجان الهويات،سنفتقد باستمرار للطمأنينة!.

ـ ألا تبدو ملامح مبررات جميلة قصد التطلع إلى المستقبل، عندما نرى مثلا، احتشاد تلاميذ الثانوية للدفاع عن البيئة؟

ـ نعم، صحيح، وكتابي يستدعي مواقف من هذا القبيل. فبدلا من الاستسلام إلى اللامبالاة وكذا الإحباط، يلزمنا الوضع بكيفية مستعجلة إلى الوعي بالأخطار، والسعي نحو إيجاد الحلول. فيما يتعلق بالمناخ، من الواضح أن ما تحقق بهذا الخصوص لايرتقي على أية حال إلى مستوى التحدي. سلوك رائع، أن يتحرك الشباب دفاعا عن القضية، لكن أيضا يلزم مسؤولي البلدان الكبرى، والذين يمتلكون الوسائل قصد تحويل مجرى الأشياء، النهوض بالأعباء الملقاة على عاتقهم،بدل الاكتفاء بالتصفيق لهؤلاء الشباب.

ـ أين يكمن الخلل وسط هذا العالم المأزوم؟

ـ أنا من الذين يجدون عالم اليوم، رغم مختلف المشاكل المطروحة، فضاء رائعا للحياة. لو كان في وسعي الاختيار بين هذا القرن والقرون السابقة، فسأبقى هنا حيث أنا فقط، ينبغي صيانة المستقبل للجميع. فلا أريد لأحفادي أن يصادفوا أمامهم حقبة أكثر تعاسة مقارنة مع الحقبة التي عشتها. يجدر بنا تأسيس مجتمعات أكثر عدالة، متجهة بقوة نحو المعرفة، مرتكزة حول القيم البشرية، وليس الخداع أو الإفساد. لايتعلق الأمر بالقطع نهائيا مع القائم، بل العمل على التأسيس انطلاقا من الأفضل المتوفر لدى معاصرينا.

ـ مرجع الحوار :
Le monde des Religions : Mai-Juin ;2019.pp :69-71.
http://saidboukhlet.com

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

الكاتب السوري عمر الحمود:  المجاملات في الثقافة قاتلٌ صامت

حوار: عبد الرزاق العبيو  | عمر الحمود، أديب من مدينة الرقة السورية، عضو اتحاد الكتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *