آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » الواقعيّة والفانتازيا في رواية “برلتراس” لـ نصر سامي

الواقعيّة والفانتازيا في رواية “برلتراس” لـ نصر سامي

لطفي العربي البرهومي | تونس

رواية “برلتراس” للرّوائي نصر سامي أكثر تجذّرا في الواقع، والتحاما بمعيش النّاس مقارنة بأيّ رواية أخرى عداها تونسيّة كانت أو عربيّة، رغم ما تبدو عليه من فانتازيا وعجائبيّة. إنّها الرّواية التي تجعلك ترى تفاصيل الواقع بجلاء ووضوح، كمن ينظر إلى الأمور من بلّور شفيف. إنّ هذا النّصّ الإبداعيّ أشبه بلوحة فنّيّة تداخلت على صفحتها الخطوط والأشكال والألوان، في إطار جماليّ واحد. وإذا ما أراد قارئها، قارئ اللّوحة، والمتطلّع فيها أن يستخلص العبرة من كل تلك الأشكال، وعلاقتها بالمعيش، فليس له إلّا أن يحدّق بحدقتين متّسعتين على آخرهما، ويفعل ذلك بتركيز كبير، كي يتسنّى له جمع ما يمكن جمعه من أجزاء صورة الواقع، المرسومة بالدّم الحار. إنّ هذه الرواية مدعوكة جيّدا بأنامل الواقع المجذومة. حتّى أنّه ليتسنّى لك وأنت تجتاز دروب صفحاته أن تسمع أنّة صدر، أو حشرجة حنجرة، أو صوت قطرات دم بشريّ فائر تصطكّ، في سيلانها المنهمر، بجسم صلب، فتحدث صوتا مربكا موجعا أشبه بعواء ذئب جائع، في فلاة.  ينطلق الكاتب، منذ البداية، ودون إمهال، في الحديث عن سكّان مدينة متخيّلة، سمّاها برلتراس، انتُزعت من أهلها أسماؤهم، وسماتهم البشريّة بأمر من آلة صدئة ورهيبة كما يعرّفها صاحب النّصّ، لتعوّضها، الأسماء، أرقام، مجرّد أرقام لا غير. ولتستحيل أطرافهم البشريّة إلى أشكال ممسوخة ومشوّهة، ليتحوّلوا، بذلك من مواطنين طبيعيين إلى مجرّد أشياء مهملة، تافهة، وعديمة الفائدة. يجد القارئ نفسه، أمام هذه الصّورة المبتكرة للكاتب، صورة الأرقام، فيسأل نفسه: هذا ما ذهبت إليه مخيّلة الكاتب الثّرّة، ولكن وهل النّاس عموما، في الواقع، في واقعنا المعيش هذا، كذوات بشريّة، في نظر السّيستام، الذي كنّاه صاحب النّصّ بالآلة الصّدئة، هذا الذي يتحكّم في رقاب البلاد والعباد بقبضة من فولاذ، غير أرقام تافهة. ربما هي أرقام بطاقات هويّة. أو أرقام في سجلّ مدنيّ أو جنديّة أو غيره. لتمحي بذلك كلّ خصوصيّات الذات، ذات الإنسان ككائن بشري، كان الأولى أن تكون له الأولويّة في الاهتمام، إلى رقم، مجرّد رقم لا غير، بلا ماض أو حاضر أو مستقبل. لا آمال لها، ولا أحلام. لا ذكرى أتراح، ولا ذكرى أفراح. ذات مجرّدة من كلّ تلك الخصوصيات التي تجعل من البشر بشرا. ليُختَزَل كيانها، تلك الذّات، في مجرّد رقم توصيفي أصمّ، فاقد للقيمة والمعنى، فتستحيل بذلك إلى مجرّد صدفة فارغة. يجعلنا هذا التّوصيف أمام ضرورة الوعي بحقيقة الواقع، واقع النّاس، بأنّهم لسوا سوى مجرّد أرقام في طابور طويل، بليد، مرقون في كنّش جرد أو دفتر ملحوظات. ربما رقمي أنا، صاحب هذه الإطلالة على هذه الرواية، 60007، ولصاحب الرّواية رقم، ولك أنت، أيها القارئ، رقم أيضا. كلّنا مجرّد أرقام لا غير. الذين يموتون في هذه البلاد، بلادنا، بل وفي أغلب بلدان العالم، والمرضى الذين يلزمون أسرّة المستشفيات والمسجونون والموقوفون والعاطلون عن العمل والعاملون في جميع المجالات أو القطاعات أيضا ليسوا إلّا مجرّد أرقام. والذين يموتون في فلسطين على يد الصّهاينة، هذا الكيان الغاصب البغيض، والذين يموتون في العراق. والذين التهمهم جاروش الزلزال المدمّر في سورية وتركيا مؤخرا، ليسوا إلّا مجرد أرقام. لا فرق بين أن تقول مثلا، في بلادي ثمّة مليون عاطل عن العمل. أو في العراق أو في سوريا أو في السّودان مات عشرون ألفا، أو مات واحد وعشرون ألفا أو مات ثلاثون ألفا، على يد هذه الآلة الصّدئة، الفاسدة.  فهذه الألف، أو العشرة آلاف، التي زادت على العشرين ألفا المتّفق عليها، أو نقصت منها، والتي هي في الأصل ذوات بشريّة، من لحم ودم، مثلنا بالضّبط دون أدنى فرق، لا يقيم حضورها أو غيابها أيّ فارق تقريبا عند من بيده دفتر الجرّد هذا، فكلها مجرّد أرقام لا غير. يكفي أن تُختزل هذه الذوات البشريّة في جملة أعداد حتّى تغدو بلا معنى تقريبا. فهذه العشرين ألفا أوالثلاثين ألفا التي تحدّثنا عنها، وأعطيناها كمثال، مجرّد مثال لا غير، والتي فقدت بعدها البشري، منذ أن اختُزلت في أرقام، هي في الحقيقة حصيلة مجموعة أفراد، لكلّ فرد منها حكايته الخاصّة، وأحلامه الخاصة، وأسرته التي مازالت ذكرى موته، موت هذا الفقيد، تمثّل فاجعة كبرى، تضرم النيران في أفئدة أفرادها. فلهذا الفقيد أبناؤه الذين تيتّموا من بعده، وهم مازالوا زغب الحواصل، كما يقول أحد الشّعراء واصفا أبناءه. وزوجة ترمّلت في عز شبابها، وأبوان لم يبق لهما بعد الله سبحانه إلّا هو، هذا الابن، الذي كان يُعَدُّ منّة عظيمة منه عليهما، وهبهما إياه، بعد لأي؛ بعد سنوات طويلة مجدبة، ومريرة من الانتظار والتّرجّي، وها هو الموت يحصد روحه، بكل قسوة، كشيء تافه بلا أدنى قيمة. لقد مات مسيحهم المخلّص، وبقوا جميعهم، جميع أفراد هذه الأسرة، عراة كفلاة. كلّ هذه التّفاصيل التي كنّا نعدّدها عن هذه الذّات، لا يعني هذه الآلهة الرّهيبة، أو هذا الذي سمّيناه “السّيستام”، في شيء، منذ أن اختزلت هذه الذّات في مجرّد عدد أو رقم.

يتحدّث الكاتب أيضا عن أناس جعلت منهم المسوخ تماثيل، تماثيل من جبس وغيره. حتّى التّجنيح المفرط في الخيال، في هذه الصّورة التي يرسمها الكاتب، ليس مجافيا لما هو ملموس في واقع النّاس، ولما يحدث، كل يوم، وفي كلّ مكان تقريبا. فهل الذي كبّله الفقر، وأعجزته الفاقة إلى أن غدا عاجزا تماما عن التّنقّل، هنا وهناك، والابتعاد عن مدينته أو حيّه أو بيته، لتلك المدن المتاخمة لمدينته أو لغيرها، لا لشيء سوى لأنّه لا يقدر على اقتناء تذكرة سفر، أو لا يستطيع تحمّل مسؤوليّة الانفاق على نفسه، ليوم أو ليومين، بعيدا عن مدينته وبيته، ليغدو سجينا في حرّيته، ففي ماذا يفضلون التّماثيل والأشياء الجامدة؟ يولد الكثير من النّاس ويعيش الواحد منهم حياة طويلة عريضة، الثّمانين والتّسعين سنة، ويكاد لا يغادر مسقط رأسه إلّا لماما، أو في القليل النّادر. ما يجعلنا نسلّم تمام التّسليم بأنّ رواية: برلتراس موغلة في الواقعيّة، رغم ما تبدو عليه من فنتازيا وعجائبية. إنّها نقد لاذع للواقع، وتقريع عنيف للأنظمة المتوحّشة التي تتحكم في رقاب النّاس. وضرب موجع أيضا على يد أولئك الذين انخرطوا، من عامّة النّاس، ورضوا بأن يكونوا الضّحيّة، أو قربان الذّبح، وسلّموا بذلك، إلى أن غدوا هم ذواتهم جزءا من هذه الآلة الصّدئة، وداعما رئيسيّا لها فيما ترتكبه من أفعال رهيبة وجرائم بشعة، موحشة. لقد استحالوا، مع مرور الزّمن، إلى سوس يأكل كلّ شيء، حتّى ذاته. يقول صاحب النّصّ، على لسان صبح، وهو الشّخصيّة الأهمّ في الرّواية، وهو يروي الحال الذي بلغه سكان برلتراس، الذين هم في الحقيقة ضحايا هذه الآلة؛ هؤلاء الذين ينضح الفقر من وجوههم جميعا كسيل عرم: ” ومثل نمرين أنشبنا أظافرنا كلّ في وجه الآخر، أدميته وأدماني، لكنّنا كنّا واهنين، فلم أقدر على قتله، ولم يقدر على قتلي، لكنّني عضضته، وعضّني”. إنّه يروي حادثة له مع صديق. هذا الواقع بين الصّديق والصّديق، فكيف يمكن أن يكون الحال بين النّاس والغرباء عنهم؟ حدّث ولا حرج.

والحرق الذي يتعرّض له سكّان برلتراس ليس غريبا في شيء عن واقع النّاس أيضا. إنّه الخطاب الأكثر شيوعا بين القاصي والدّاني. خاصّة بين أولئك الذين لهم مظلمة من جهة ما نافذة، ولا يستطع الواحد منهم أن يستردّ حقّه بالأشكال السّويّة، المتعارف عليها. دون أن ننسى أنّ الذي أشعل فتيل الثّورة التّونسيّة، التي تلتها ثورات أخرى في المنطقة العربيّة، بعد ذلك، هو صاحب مظلمة أضرم النّار في جسده، كشكل من أشكال الاحتجاج على ظالميه. يقول الكاتب، على لسان أحد شخوصه، في الصّفحة 124: ” الحرق كان الحياة الوحيدة التي لها معنى، في برلتراس، يؤسفني قول ذلك، لكنّها الحقيقة”. رغم أنّ مشهد الاحتراق عادة ما يكون بشعا ومنفّرا، حتّى ولو طال لهيبه المضطرم أشياء مادّية بخسة، بلا قيمة، أو بلا روح؛ كوخ متداع، أو شجرة، إلّا أنّه يعدّ الوسيلة الأنجع، اليوم، لإعلان الرّفض، ورفع راية التّمرّد في وجه جبابرة غطت مظالمهم الآفاق. ليثبت المرء أنّه كائن حيّ، كائن موجود حقيقة، ومهاب الجانب، وكمحاولة جريئة أيضا لقلب الطّاولة على النّافذين الظّالمين لا مناص من إحراق النّفس. ليس حرق النّفس فحسب، بل وحرقها إلى حدّ التّرمّد. فالحرق هو الحياة الوحيدة كما يقول الكاتب، أو الطّريق الوحيد من أجل الوصول إلى الضّفّة الأخرى؛ الحياة.          

حتّى أمر حزّ الجناحين هذا الذي يتعرّض له سكّان برلتراس، وهي صورة مبتكرة أيضا جاد بها قلم صاحب الرّواية في تجنيحة من تجنيحات خياله الجامح المتحفّز، لا يخلو هو بدوره من الواقعيّة. الجميع هنا، في هذا الوطن، تونس، بل وفي أغلب باقي الدّول العربيّة تقريبا، وأغلب دول الجنوب، جنوب كوكب الأرض، تهيمن عليه فكرة أنّه منتوف الرّيش، ومحزوز الجناحين، من قبل هذه الأنظمة التّوتاليريّة المتسلّطة، التي تبرك بكلكلها على أنفاس النّاس، وتثقل كواهلهم بكلّ أشكال الشّقاء، وتعطّل حياتهم بلا نأمة ضمير أو حياء. دون أن تنجح، هذه الأنظمة، في استثمار موروثها السّياسي، المنبثق من ثقافتها الضّاربة في التّاريخ، ولا هي استطاعت أيضا في أن تجاري هذا الغرب المغرور والمتبجّح أو تحاكيه ولو مجرّد محاكاة بسيطة في ديقمراطيته المدّعاة؛ هذا الدّين الجديد، الذي غدا يُفرَض على باقي شعوب العالم بقبضة اليد. فاستحالت، هذه الأنظمة، إلى أجهزة قمع، وصخرة عذاب تقبع في قلب الطّريق، بل تحوّلت إلى فيالق من مسوخ سيّئة، بشعة، ومنفّرة، دمّرت البلاد والعباد. إنّ الإنسان منهم ما إن يتخطّى عتبة السّياسة، حتّى يغدو عقله،  مباشرة، محتشدا بالعقارب والآفات، ولا يفكّر إلّا في الشّرّ، وكيفيّة إلحاق الضّرر والأذى بالآخرين. لقد نتفوا، هذه المسوخ، ريش النّاس بالحقّ، وأثقلوا كواهلهم، إلى أن استحال الإنسان في الإنسان، ذلك الكائن المتحفّز إلى الطّيران والتّحليق، في العادة، إلى مجرّد دجاجة بيّاضة، مشدودة إلى أرض موحلة، تغطّي آفاقها الأدران واللّعنات، كما تنشدّ العربة إلى ظهر الحصان. إنّ هذا الشّعور، شعور حزّ الجناحين، غدا قاسما مشتركا بين أغلب النّاس تقريبا، هذا ما جعل أغنية شبابيّة للمغنّي بلطي، وهو مغنّي راب تونسي، ” يا ليلي”، والتي صاغ صاحبها كلماتها باعتماد صورة حزّ الجناحين هذا، تبلغ العالميّة، وتحطّم أرقاما غير مسبوقة، في العالم العربي، في نسب المشاهدة. وأغنية أخرى أيضا لمغنّي راب آخر يكنّي نفسه كافون، التي تقول لازمتها؛ ” نحب نقلّع …”، وهو يشير بكفّي يديه إلى الفضاء النّائي، البعيد، ومعناها؛ أريد أن أقلع، أو أطير وأحلّق في الفضاءات. فهذه الفضاءات هي رمز الحرّيّة عنده. إنّه يرثي، في أغنيته هذه، جناحيه المحزوزين، إذ لم يبق له سوى حلم أن يعود له ريشه المنتوف، ليعاود التّحليق، ثانية، فيطير بعيدا، كما تطير الحساسين هربا من أنظمة خربة وقميئة، تحترف قتل الأجنحة، ومصادرة الرّيش. لتغدو هاتان الأغنيتان من أكثر الأغاني شهرة وشيوعا، بل وترديدا على شفاه محبّي الرّاب وغيرهم، فهما الأكثر تعبيرا عن حالات النّاس النّفسيّة، وقاسمهم الشّعوري المشترك.              

يقول الغريب، وهو الشّخصيّة الرّئيسيّة في الرّواية، عن البناية التي تُصنع فيها أغلب المكائد والفخاخ التي تُنصَب في طريق النّاس، لتوقع بهم، وتغدو بعدها سيّدة على مصائرهم، المبنى الكبير، الرّابض على تلّة الرّاجبوت: “البناية البيضاء المدقوقة كالسّكّين، في ظهر الدّنيا”. لماذا بيضاء، وليست صفراء أو حمراء أو غيرها؟ كان الأجدر أن تكون سوداء، وبسواد قاتم أيضا، فالسّواد، في العادة، هو الأقرب إلى رمزيّة الشّرّ. إلّا أن الكاتب اختار لها البياض لونا؟ ما يجعلنا نسأل باستغراب: لماذا هذا اللّون، الأبيض، تحديدا؟  أهو سواد مقطرن يتخفّى ببياض؟ شرّ يتستّر ببراءة؟ ألا يكون هذا اللون هو الذئب الماكر والمخادع الذي يتنكّر في لباس الآدميين، ويدّعي أنّه جدّة حمراء حمراء، لغاية خداع البنيّة، وأكلها؟  وبماذا يذكّرنا ذلك؟ ألا يذكّرنا بالبيت الأبيض الأمريكي؛ هذا البلد العظيم، والضّخم، والمترامي الأطراف، المبنيّ حجرا حجرا، بجماجم سكّانه الأصليين، وكواهل السّود المخطوفين من دولهم الإفريقية، في عمليّة قرصنة غاية في النّذالة، ونخاسة مخلّة بكلّ المعايير الأخلاقيّة. شرطيّ العالم، سيّء السّمعة هذا. وهذا دليل أيضا على أنّ الكاتب يستقي صور روايته من واقع العالم المعيش؛ فهذه الصّورة مستقاة من الواقع الجيوبولتيك العالمي.

في هذا الجوّ المأساوي، الذي يجد القارئ نفسه فيه، كيف يمكن جعله، جعل القارئ، يتحمّل أطنان الآلام الممتدّة، على طول الرّواية من أوّلها إلى آخرها، كمدينة من طوب تعرّضت إلى زلزال مدمّر، دون أن يملّ، فيهجر الكتاب. لا حلّ إلّا في الشعر، حسب ما يراه الكاتب. لقد جعل منه، الشّعر، حديقته الغنّاء، في هذه المحرقة الرّوائيّة. إنّه لا يني يتحدّث عن الشّعر والشّعراء. حتّى أنّه حين ارتأى أن يحرق بيت الغريب، الشّخصيّة الأهمّ في الرّواية، والتي أنيط لها دور نسخ ما يلقى عليها من قصائد المفضّليات، نسبة إلى المفضّل الضّبّي، لم يستثن من الحرق سوى إضمامة الورق التي كان يدوّن عليه هذه القصائد. يقول الغريب عن هذه الإضمامة: ” وتركني مع أوراقي التي ودّعت فيها روحي، وها هي تعود إليّ”. نعم إنّ الشّعر ليس روح الغريب، المسمّى صبح، فحسب، وروح الكاتب، صاحب هذه الرّواية، بل وروح الرّواية أيضا. إنّك لا تغادر، في هذه الرّواية، مجازا إلّا ليطلّ عليك تشبيها، أو استعارة أو صورة شعريّة. هذه الرّواية بناؤها شعري بالأساس. اسمعوا لهذا المقطع الصّغير على أحد ألسنة شخوص صاحب النّصّ، يقول: ” أجرح وجه الغيم السّاكن بعوائي. ويرتدّ لي الصّراخ والعواء نبالا وسكاكين”. وهل هذا غير أردية الشّعر تستر أعضاء السّرد. ويسير الكتاب على هذا المنوال، من أوّل الكتاب إلى آخره. الشّعر موضوع كتابة، مع اقتراض لغة الشّعر للتّعبير عن ذلك. حتّى أنّني أجدني مجبرا على أن أكنّي هذه الرّواية بالرواية القصيدة. ربما هذا المصطلح جديد في لغة العرب، إلّا أنّني أرى أنّ الأمر لا يستقيم إلّا كذلك. إنّ هذا الكتاب رواية قصيدة بكلّ المقاييس. والأدلّة كثيرة على ذلك. ولا عجب في ذلك، في اعتقادي، فصاحب هذه الرّواية شاعر بالأساس، كما أسلفت القول. بل لم يكتب النّثر إلّا بشكل متأخّر عن الشّعر. فهو لم يكتب أوّل نصوصه النثريّة إلّا بعد تسع مجموعات شعريّة أو يزيد.  يقول الشّخص المكنّى الغريب عن الشّعر: ” تمكنّني القصيدة من حياة ثانية، تحميني من الموت. تتولّد كلمات عميقة لم أعتدها في كلّ قراءة، وتنضح روح في روحي”. أتعتقدون أنّ هذا ما حدّث به الغريب عن نفسه، لا، بل هو حديث الكاتب عنه هو ذاته، الكاتب، ساقه على لسان بطل روايته. فما هذا البطل في الحقيقة إلّا واجهة عرض، أو ستارة يتخفّى خلفها صاحب النّصّ.           

سؤال ملحّ يطرح نفسه بإلحاح؛ ما الحلّ حين يفيض الكيل؟ من أجل الخروج من هذه الأنفاق السّوداء، ماذا يمكن أن يفعل هذا الإنسان؟ إنّه لابدّ من أمر مهمّ يحدث، لأنّه لا بدّ من حلّ. معناه أنّه لم يفت الأوان بعد، من أجل إصلاح هذا الخراب، أو ترميم شيء منه، على الأقل، هذا الذي أحدثته هذه الآلة الجحيميّة، هذا الجاروش الذي يُطحَن فيه النّاس كحبّات الحنطة. هذا حين نكفر بنذر الشّؤم، ويملئنا الأمل. إنّه لابدّ من كسر هذا الطّوق الغليظ والقاسي الذي يكبس على أرواح النّاس. يقول هاروكي موراكامي: “كقاعدة عامّة، هناك حجّة تنقض كلّ نظريّة”. ففي هذا الواقع المتردّي، المتّزر بإزار الوحشيّة والقتامة، وحشية وقتامة حفرة قبر، الذي وجد كوكب الأرض نفسه يتردّى فيه، يرى الكاتب أنّه لا بدّ من مواصلة الحكي. مواصلة سرد الحكايات دون توقّف، هذا من أجل الخلاص؛ خلاص البشريّة. فــ “المسألة كلّها مسألة خيال”، كما يقول ياتس. أو كما يقول هو، صاحب النّصّ، على لسان أحد شخوص روايته: “كلّ شيء محض استعارة”. أو محض مجاز. فالمجاز يختصر المسافات. إنّ اللّامعقول يغدو معقولا في دنيا المجاز. إنّه لا شيء يضاهيه، المجاز، في إعادة الغائب، وتذويب المعادن الصّلبة، تلك التي تلعب دور المتاريس. كما لا أحد يؤمن بذلك إيمانا راسخا رسوخ قاعدة جبل مثل الشّعراء. وصاحبنا شاعر بالأساس، كما أسلفنا. لو يظلّ المسافر يمشي، بالتّأكيد سيدرك المكان الذي يقصده. وكذلك الأمر هنا، فمن أجل نسف هذه الآلة الرّهيبة القاسمة للظّهور، والنّاهشة للحوم؛ لحوم البشر، لا يمكن أن يتمّ إلّا بمواصلة سرد الحكايات. فالحكايات، أو لنقل الفنّ عموما، فهذه الرّواية مملوءة شعرا أيضا، هو قنديل الكيروزين الملتهب الذي سينير للنّاس درب الثّورة والرّفض. ثورة ورفض لا يشبهان الأوّلين، اللذين حدثا قبل سنوات قليلة مضت، وانتهيا بسياسات عمياء وانتهازيّة أشدّ وأعتى في السّوء ممّا كان قبلهما، ما عقّد وضعيّة النّاس أكثر، إنّما هما ثورة ورفض واعيان وأصيلان. يقول الكاتب عن الأسياد الجدد، وخيبة أمل النّاس فيهم، هؤلاء الذين كانوا، من قبل، في صفّ الثّوّار، والرّافضين لتردّي راهن النّاس: ” يتستّرون على أخطائهم، ويساوون بين الضّحيّة والجلّاد، ويطبّقون القانون على الضّحيّة فقط. وما كانوا يأخذونه بالغصب، صاروا يأخذونه بالقانون. وما أسرع أن يحكم قضاتهم بقتلنا”. إمّا أن نواصل سرد الحكايات، أو استحال الزّمن إلى فلاة، وتحوّل العالم إلى مكان شنيع، ومستنقع تماسيح. يمكنك أن تشاهد النّمل وهو يجوب دروبه، ويعمل في همّة تثير الإعجاب، لكنّ، مع الوقت، سيصيب عقلك الخمول، وتملّ في النّهاية، أمّا سرد الحكايات فشأنها آخر. يقول هيكتور بيوليوز: ” حياة دون قراءة هاملت لمرّة، كحياة نقضيها في منجم فحم”. إنّها قصّة الإنسان مع الحكايات. إنّها الأكسيجين الذي يتطلّبه أمر البقاء. هذا كي لا يصبح الواقع مملّا وسطحيّا، ويجد المرء نفسه خالي الوفاض من كلّ شيء. إنّ سرد الحكايات هو حياة النّاس الدّاخليّة. إنّه رحلة اكتشاف الذّات، وإثبات الهويّة. إنّه التّطعيم الفعّال، والنّسغ المضادّ لجرثومة الموت، في العروق. باختصار؛ مواصلة الحكي هو الحياة بشكل آخر. فالدّكتاتوريات تخشى الكلام وفضح الرّاهن أكثر من خشيتها رفع السّلاح في وجهها، ومقارعتها رصاصا برصاص. قال الكاتب، في أحد فصول هذه الرّواية: ” معرفة السّرّ، أو معرفة الحقيقة يعني الموت”.  إنّه، الحكي، لهب من نار يجعل الثّورة تضطرم في القلوب، والأطراف تشتغل في جنون، فينحسر بذلك الخوف، ويتقزّم الموت. يستحيل هذا الموت في ذاته إلى مطلب وبغية.  ما يُروَى عن لينين أنّه كان محدّثا بارعا. حتّى أنّ أنصار القيصريّة وأشياعها كانوا يخشون سطوة لسانه؛ لسان قائد ثورة أكتوبر، وسرده لقصص فضائح القصر، ومظالم نظام القياصرة القاسي والعنيف، أكثر من خشيتهم سطوته على الشّارع. فليس حديثه عن تاريخ الملكيّة، وجدل المادّة، وأسس المنهج، ولا مشكلات نظريّة الوجود، تك الطروحات التي تخلّف صداعا في الرّأس، هو الذي أحدث الفارق، إنّما سرده لقصص تلك الفضائح بشكل بارع.  هو الذي ألهب حماس الجماهير وهيّج غضبهم، فأهدى صانع ثورة أكتوبر قياد الشّارع. إنّ عامّة النّاس معنيون أكثر بتلك القصص الحيّة، السّمك من بحره، كما يقولون. إنّه هي التي جعلت المذراة والقادوم والهراوة تنتصر على المدفع والدّبّابة والرّشّاش. جعلت الأكفّ العارية العجفاء تنتصر على الجيوش النّظاميّة، المدجّجة بأخطر أنواع السّلاح، وقتها. إنّ تأثير السّرد لا يقلّ عن تأثير الدّيناميت. وحين أراد صانع ثورة 1917 أن يختار من بين رفاق دربه خليل مساررة، وموضع ثقة، اختار ماكسيم غوركي، ذلك القصّاص البارع، والرّوائيّ العظيم. صاحب رواية ” الأمّ”، هذا الأثر العظيم والخالد، الذي اتّخذه الفقراء إنجيلا لهم. إنّ سرد الحكايات والثّورة صنوان، أو توءم، أو لنختصر كلَّ ذلك في قول أنّ كلاهما، الثّورة وسرد الحكايات، من ذات فصيلة الدّم؛ ذلك الدّم الأحمر القاني، والفوّار. فما الثّورات إلّا محصلة سرد قصص وحكايات سابقة. فالذي يغيّر مسار الإنسانيّة ووجه العالم إنّما هو السّرد. هذا ما جعل صاحب الرّواية، حين مات الرّاوي الرّئيس، المسمّى صبح، اختلق شخصيّة أخرى، سمّاها حسن، وكنّاها بالزّيني، لتتمّ سرد ذاك المتبقّي منها، من الحكاية. يقول حسن هذا، وهو يناجي نفسه، يحثّها على مواصلة الحكي: ” اكتب، يا حسن، اكتب. لا تمت دون أسطورة”. نعم، إنّه لا أسطورة دون سرد الحكايات. ” فما لا يُكتَب، ولا يُصَوَّر، يُنسى”، كما يقول توماس إيلوي مارتينيث”. بينما النّسيان آفة الآفات. ليس المهمّ ألا يموت الرّاوي، بل ألا تموت الحكاية. حين تبقى الحكاية، وتنجو من التّلف والنّسيان، حتما سيظهر من يرويها، ويتمّ ذاك المتبقّي منها. يقال أنّ كتاب ” ألف ليلة وليلة”، هذا الكتاب البِدعة، والخارق للعادة، لم يكتبه قلم واحد، ولا شخص واحد، إنّما كتبته أجيال من الأقلام، كتّاب كثر تداولوا على إتمام لياليه، الألف وليلة، على امتداد أزمنة كثيرة وطويلة أيضا، ربما تُعَدّ بالقرون. إلّا أنّ المطّلع على هذه اللّيالي، لا يشعر بذلك. لا يلمس أيّ تبديل أو تحويل في نسق الكتابة أو جزالة اللّغة. لا يجد فرقا في الأسلوب بين ما كُتِبَ أوّلا، وما كُتِبَ تاليا. بين أوّل سطر وآخر سطر، من كلّ ذلك الكمّ الهائل من الصّفحات، الذي يُعدّ بالآلاف. يكفي أن يكون طرف الخيط موجودا، لتغدو البقيّة سهلة وسلسة كمن يضع أصابعه في الماء. المهم هو ألّا يضيع طرف الخيط، وحتما سيوجد من سيمسك به، ومن ثمّة يتمّ حلّ بقيّة اللّفافة؛ ذلك المتبقّي من الحكاية. لذلك كان لا بدّ من إتمام سرد الحكاية، أو غاب كلّ الضّوء الذي نرى به الأشياء والعالم، في دهليز قاتم، متعرّج، لا يفضي إلى شيء. وتنتصر بذلك تلك الظّلال الدّاكنة التي تحاول بسط كفّها على العالم. ليستحيل، بعدها، هذا العالم، إلى مكان شنيع. السّرد هو ذلك الضّوء الباذخ والوهّاج الذي لا تبدأ مراسم الحفلات إلّا بوجوده. وإنّ تعطيله، أو تأخير حضوره، أو الاستهانة بضرورة وجوده، هو دون ريب خسارة المعركة. خسارة المعركة مع الآلة الصّدئة، هذه التي سمّيناها السّيستام. ومع الضّجر. وخسارة معركة إثبات الذّات وتحقيق التّألّق. لذلك كان أمر إتمام سرد الحكاية هو الأمر أكثر إلحاحا وأهمّيّة مقارنة بأيّ أمر آخر عداه، حسب ما يراه صاحب الرّواية. كلّ الخسارات التي تكبّدتها مدينة برلتراس، ومُنِيَ بها سكّانها، تُعَدّ خسارات صغيرة وتافهة، يمكن تفاديها، وتعويض أضرار ضحاياها، في المستقبل القريب أو البعيد، لكنّ الخسارة الفادحة التي لا تعادلها خسارة، كما لا يمكن تعويضها أبدا، هي أن تموت الحكاية.

لم أطق صبرا. هاتفت نصر، لأخبره برأيي فيما كتب، فأنا أوّل، أو لنقل من الأوائل الذين كان لهم قصب السّبق في الاطّلاع على هذا النّصّ العظيم. قلت أهنئه: ” لقد كتبت متنا عجيبا، يا صديقي”. صَمَتَ صَمْتَ الذي أخِذَ على غرّة، أو المرتاب في صدق نيّتي. ربّما ظنّها مجرّد مجاملة. ردّ يقول، بعد برهة صمت، وهو يجلي حنجرته، ويختار كلماته بعناية، كعادته، وبنبرة خفيفة من الشّكّ تعتري صوته: ” نعم، لقد أجهدني هذا النّصّ”. أجبته من الطّرف الآخر أقول: ” بلى، فهذا منطقيّ تماما، كان يجب أن يجهدك، فهو ثقيل بما يكفي، كي تكون ولادته عسيرة. وما كان أمر إهلاله إلى هذه الدّنيا، ممكنا إلّا بمشقّة بالغة، وبجراحة دقيقة أيضا، أو مات الوالد والمولود”. أضفت، وأنا أطلق ضحكة صغيرة: ” يعني تهانينا لك أنت على السّلامة، بأنّك خرجت من هذه المعركة دون أضرار تُذكر. وتهانينا للأدب على هذا المخلوق الخارق”. زدت أقول، وقد أخذني شيء من الحماس: ” وأزيدك من الشّعر بيتا، يا صديقي، نصّك هذا سيعمّر طويلا، بل سيعيش أعمارا كثيرة من أعمارنا نحن البشر، وستتخاصم الأقلام في شأنه، إلى أن يبلغ دخان أسنّتها المتقارعة عنان السّماء.

نعم، إنّ هذا النّصّ، أراه، من المتون الكبيرة، تلك المتون التي تتلبّس بك، إلى أن تغدو جزءا منك، بل تمتلك عليك روحك، إلى أن تغدو هي أنت. تذكّرني رواية ” برلتراس” في غرابتها وعجيب حبكتها برواية “التّحوّل” لفرانس كافكا، و”العطر” لباتريك زوسكند، ورواية ” العمى” و” انقطاعات الموت” لجوزي ساراماغو، و”ميتتان لجل واحد” لجورج أمادو. تلك المتون العظيمة التي تجعلك لست أنت تماما، بعد إتمام قراءتها. كما تجعلك تتمنّى ملء فؤادك لو تحظى، ككاتب، بعمل واحد من طينتها، أو بنص عمل مثلها، في مسيرة إبداعيّة بأسرها.

هل قلت كلّ شيء فيما يخصّ هذا العمل؟ هل وفيته حقّه؟ لا، أبدا. هذا مجرّد غيض من فيض. فهذه الرّواية ساحرة، مستفزّة، ومشحونة بالدّلالات والإيحاءات، وسيسيل الكثير من الحبر، على عتباتها. وهذا، لعمري، لغاية غايات الأدب، أو الفنّ عموما؛ أن ينشغل النّاس به، ويتنافسوا فيه.

مجلة قلم رصاص الثقافية 

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *