الرئيسية » رصاص ناعم » وجهاً لوجه مع حلب (12)
لوحة للفنان السوري سعد يكن

وجهاً لوجه مع حلب (12)

“نحن لا نتعود إلا إذا مات شيء فينا”

إن أسوأ ما يمكن أن يحدث لبلد هو أن يحكمه حزب البعث، المشكلة ليست في السلطة وفسادها فالسياسة دائماً غير نظيفة، المشكلة في الكيفية التي سحقت هوية الإنسان فيها فتم تحويله إلى كائن مهزوز الشخصية ، كذلك العقلية الأمنية التي قادته إلى أن “يمشي الحيط الحيط ويقول يا رب السترة”،  ثم يخاف أن يجهر برأي في أتفه المواضيع أمام أقرب الأصدقاء لأن الخط جميل والحيطان لها آذان وسجن تدمر يغيب الناس فيه وراء الشمس ، فصار  الإنسان توفيقياً مائعاً حسب الحدث والمكان دائماً ، روحه خامدة ملعونة بالعنعنة، هذا ما كان قبل أن يختبر الحرب فما بالكم ما الذي جرى بعدها ؟!  يقول ممدوح عدوان في كتابه حيونة الإنسان: “نحن لا نتعود يا أبي إلا إذا مات شيء فينا ، فتصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما حولنا”!

نحتاج لمجلدات لنذكر كيف تم إخصاء الإنسان السوري على يد واحد من أعنف الأنظمة الشمولية في العالم العربي، المشكلة ليست بالمفارقة الهائلة بين سورية “الجميلة” قبل الحرب، وبين ما يُقرأ بين السطور  من ممارسات انتهكت الإنسان سابقاً بقدر ما صوّرت له أنه يحيا فحسب، المشكلة أن نظام البعث عشش وفرخ في كل زاوية من زوايا العقل الجمعي السوري، وأن  لعناته ليست موجّهة فقط على السجون المرعبة التي ابتكرها” تدمر – صيدنايا: “التقرير الأحدث الذي يندى له جبين الإنسانية”، إنه بلاء عام تجده في نظام التعليم، في المؤسسات البيروقراطية، وفي الجرائد الرسمية والإعلام، حتى لنحتاج دراسات مفصلة في كل قطاع كالدراسات التي أجراها فوكو في زمن ماض عن المؤسسات الاجتماعية مثل : المشافي والسجون والمصحات وغيرها ولا سيما في كتابه المهم: “المراقبة والمعاقبة”، ولذلك ترى أن معظم من ثاروا كذلك على نظام البعث أعادوا إنتاج وهيكلة مؤسساتهم الإعلامية والثقافية  بل وحتى خطابهم اليومي بنفس بعثي دكتاتوري شللي لا يشق له غبار، وإن كنت تتأمل البعثيين القدماء والبعثيين الجدد من “برجك العاجي – المسافة” ستصل لنتيجة واحدة : إن نظام البعث سرطان محكم فتك بخلايا الجسد السوري في العمق… في الروح.

في إحدى المرات التي ازدادت فيها الاشتباكات في منطقة بيتنا في حلب نزح السكان بطريقة عجيبة ولم يبق تقريباً غير أسرتي، كان عددنا سبعة أفراد وكنا نشعر بالثقل من الذهاب عند الآخرين، إلى أن طرق باب منزلنا ضابط برتبة…. نجوم وكان القائد العسكري في تلك المنطقة، أخبرنا بوجوب إخلاء المنزل فوراً بلهجة آمرة استعراضية تظهر من أي صنف هو، وهذا ما حدث لفترة فعلاً، لكن ليس هذا وجه الاستشهاد في القصة، كنت أراقب بدقة حركات والدي ووالدتي، الهلع الذي أصابهم منه، نظرة العينان، الرقبة المائلة بدون مبرر، ارتباك والدتي وهي تعرض صنع القهوة، ومن ثم التعريف عن نفسنا أمامه فرداً فرداً وكأننا مجرمون، ولم أجد مبرراً في طلبه سوى الرغبة الحقيقية فعلاً في جعلنا نخاف، وهذا ما قام به والدي بصوت مرتبك، وعندما وصل دوري، و عرف عني والدي وعن دراستي في الجامعة، قال لي الضابط أريد أن أجري لك اختباراً بما أنك صحفية وطالبة ماجستير :

– ما إعراب : ف القنديل زيتاً ؟

– هل تقصد: في القنديل زيتُ (مبتدأ-خبر)  

 – لا ، ف القنديل زيتاً

 – ف : فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، الفاعل: ضمير مستتر تقديره أنت، القنديل: مفعول به أول منصوب زيتاً: مفعول به ثانٍ منصوب.

 – شاطرة

نظرت في عينيه بثبات وقلت له: اختصاصي !

حينها قال لوالديّ: وراسها كبيرة !

شعرت أن أبي وأمي تمنيا لو لم ينجباني في تلك اللحظة، في الحقيقة أتفهمهم تماماً …قالا بصوت خافت: العفو ما قصدها …

عندما كنا نجمع بعض الأساسيات استعداداً للنزوح، قلت لأبي وأمي:

نحن الجيل الجديد نتاج مسيرة التحديث والتطوير الفاشلة تماماً، هذا واضح،  لكن أنتم أقسم أن مسيرة التصحيح قد  ربتكم فأحسن البعث تربيتكم، في الحقيقة أحسن التربية!

خاص موقع قلم رصاص الثقافي

عن وسام الخطيب

وسام الخطيب
كاتبة فلسطينية، خريجة كلية الآداب قسم اللغة العربية في جامعة حلب سورية، تكتب وتنشر في العديد من الصحف والمواقع العربية.

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *