آخر المقالات
الرئيسية » يوميات رصاص » يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (32)

يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (32)

في البهو المؤدي إلى قاعة مسرح العرائس واجهة زجاجية كبيرة تعرض فيها الدمى المشاركة بعروض مرت على هذه الخشبة الصغيرة، بينها الفئران والطباخة وكذلك أحصنة مسرحيتي “الدجاجة السوداء” التي رقصت على خشبة مسرح القباني لتأخذ أليوشا أو “سوزي الوردة” كما كان يسميها آدم ذو الست سنوات في رحلة عجيبة داخل مملكة ما تحت الأرض. عرض مسرحي عمره ثلاث سنوات ضمّه حينها برد شديد، قذائف تنهمر، حواجز، قناصين، طرقات مقطوعة ولا كهرباء.. لكنه رأى من الحياة فترة قصيرة.

على الجهة اليمنى من البهو فوق مقاعد الاستراحة علقت بوسترات لعروض أطفال، اسم “عاصم الخيال” يلوّن عديدها فأفكر باللذين رحلوا، أمس كانوا معنا واليوم تحولوا لأسماء، مازال ملمس أصابعهم محسوساً على الدمى التي أمسكوها، حركوها ولعبوا بها، ولا بد أن الدمى مازالت تذكر حرارة أيديهم ولزوجة عرقها.

يوم مات عاصم لم أصدق، ذلك الطفل الجميل الضاحك طوال الوقت، يستحيل أن يموت من مثله فحياته مبنية على مشاريع دائمة تحمل الفرح، أما “الفراشة” فقد أحرقتها قذيفة هاون نثرت جوانحها أشلاء على سطح ذاك البيت في القيمرية.

زكي أيضاً غاب وغيره كثيرون، ولم يبق من الذاكرة سوى هذه الجدران التي ضمت أرواحهم الدافئة في يوم صار ماضٍ.

*****

على جدران الصالة علقت الدمى التي لم تسعها الواجهة الزجاجية، سفينة من مسرحية “القرصان والقرش الجوعان” ودمية أليوشا بملابسها الزاهية، المعلم وزوجته، ينظرون إليّ من أماكنهم فلا احتمل النظرات، أدخل الكواليس لأتابع العرض من هناك.

مسرح الطفل عالم عجائبي، لا تستغرق سوى جزء من لحظة لتعود طفلاً يلعب بدميته أو يخترع لعبة، يضحك من داخل قلبه كما لم يضحك من سنوات، تنسى عالم الكبار وألعابهم الخشنة ولا يعود يهمك عالمهم الخانق برائحة البارود.

الحمار الأزرق يقرط بحرف السين لأن اسنانه الأمامية مكسّرة، فلا تتمالك نفسك من الضحك، أما الكلبة التي تشبه معزة عند أول إطلالة فتظهر غنوجة مدللة.

أحببت الجميع، أصحاب المزرعة والصيصان والفئران والعصافير والدجاجات، حتى البوم جميل. كائنات تكتسب الحياة في أيدي محركيها وهم يمنحونها من أرواحهم ديناميكية الضحك واللعب، بينما في الخارج تذبح الخواريف، وتقصف إسرائيل قواعدنا الجوية.

*****

شوارع دمشق ميتة في أول أيام العيد، أتسلل من شارع الثورة باتجاه سوق الحرامية، بضع بسطات أحذية مهترئة وعدة كنبات مخلّعة، وإلى يساري كومة من الكراتين القديمة المغطاة بشوادر أونروا تظهر خلفها على الجدار عبارة: “انتبه أطفال”.. أستغرب مكان العبارة فأدقق النظر لاكتشف أنها أكواخ مرتجلة بين القمامة، واطئة خجولة، تعج بالسكان المختفين داخلها كالشخصيات الخرافية في مملكة ما تحت الأرض التي زارها أليوشا في أحلامه.

أدوس على بقايا الخضار التالفة والدم المتخثر، أتنفس من فمي كي لا أشم زنخ الدم، وفي الجهة المقابلة تلال من فرو ذبائح العيد يحمّله رجلان إلى سيارة سوزوكي.

هنا وقعت مجزرة هذا الصباح، وهناك، وهناك أيضاً، وهنا.

طقوس احتفالنا مجازر ودم لزج، قبل الحرب وأثناءها، بعدها لا فرق، المهم أن ننحر الرقاب.

*****

في مخيم جرمانا قرب حاويات القمامة والأكشاك الهزيلة المختصة بإصلاح الكمبريصات وبيع الوحدات وشواء بقايا ذبائح هذا العيد من روايا وكلى، نصبت مراجيح العيد الارتجالية، وضحكات الأطفال في طيرانهم تملأ الفضاء على ألحان أغنية لنانسي عجرم شغّلها صاحب المراجيح.

ضوء الليد الأحمر يضيء السرفيس المحمّل فوق طاقته بالركاب. يصرخ السائق من مكانه:

– اختي.. أنت كم محل دافعة؟ فوتوا لجوا شوي.. خلي الناس تطلع..

فتجيب:

– يا أخي أنا حاطة الولاد بحضني ودفعتلك محلين.. بدك اكتر بعطيك.. بس حاج تعبّي مشان الله.. ما عاد فينا نتنفس..

فيرفع صوت المسجلة لتغني أم كلثوم وتُسكتها، وأنا أنحشر قرب امرأة أخرى تضع طفلتها في حضنها مرتدية فستان العيد الأبيض كعروس صغيرة، بينما حذائها الصغير الأسود القديم المهترئ من الأمام يلامس ركبتي، فأفكر كم من طفل انتعله قبلها حتى وصل إليها في هذا العيد.

في المقعد الخلفي عاشقان خارج المجال الجوي لهذه الفوضى، يمسك بيدها ذات الأظافر الوردية الطويلة ويمررها على ذقنه ويضحكان، ينتبهان إليّ فتُنزل يدها وأنا التفت لأنظر من النافذة كي لا أحرجهما.

13/9/2016

 مجلة قلم رصاص الثقافية

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *