آخر المقالات
الرئيسية » رصاصة الرحمة » المياه التي تكذّب الغطّاس

المياه التي تكذّب الغطّاس

لا أعتقد أنه إحساس بالدونية، أو من قبيل جلد الذات، أن نسأل: هل هناك شعوب قادرة على إنتاج حضارة وشعوب لا تقدر على هذه المهمة؟

ولربما كان من الأهم أن نسأل هل هناك شعوب قادرة على تحمل الحضارة وممارستها، وهناك شعوب غير قادرة على تحملها والإيفاء بمستلزماتها؟

السؤالان السابقان ليسا وجهان لسؤال واحد، على الرغم من كونهما سؤالين ثقافيين، إلا أنه يوجد بينهما فارق كبير، فالأول يتساءل عن الإمكانيات والاستعدادات الثقافية لممارسة إنتاج الحضارة، وهي إمكانيات واستعدادات لا تتكرر بالضرورة، ويتحكم فيها العطب الثقافي المسكوت عنه أو المفتخر به على طريقة استعادة الأمجاد، وهو أمر أثبتت الحياة استحالته، دون قراءة نقدية للواقع الثقافي، والتصارح بشأنه بحيث يتحول إلى صناعة وإنتاج الأمجاد بدلاً عن استعادتها وهي مستعملة ومستهلكة ومهترئة بحكم مرور الدهر عليها، حيث يبدو العطب كمفارقة غريبة هازلة عند توحد المسكوت عنه بالافتخار، ما يحمّل هذه الشعوب التي تفشل في إنتاج حضارة أوزاراً وأحمالاً تفشل في الصمود تحت ثقلها، فتؤجل “استراتيجيا” تهيئة أسباب النهوض من إمكانيات واستعدادات إلى أجل غير مسمى، بذرائع شتى حتى لتبدو مثل الشحاذ اليافع الأنيق الذي يرفض العمل مبرراً ذلك السؤال بعزيز قوم تعاكسه الظروف والاحتمالات.

ربما أتاحت “استعادة الأمجاد” الكشف عن طيف إمكانية لإنتاج الحضارة، على أساس أن هناك تجربة سابقة في هذا المجال، ولكن الاستعدادات تكشف عن  رفض عميق لإنتاجها عند الكافة أو العامة التي يعتقد الكثير من مثقفينا بأنهم على حق (على سبيل هجاء النخبة) لمجرد أنهم المتضررون من عدم إنتاج حضارة، ومتساوون في تحمل الضرر عن ذلك، حين فشلت النخب في إعدادهم لهذا الاستحقاق، مما يجعل العطب الثقافي مركباً دائراً في دائرة مفرغة ينتج ذاته بذاته ولذاته..

فالمتخلفون اليوم هم القوام الأكثري للشعوب غير المنتجة للحضارة ومع ذلك هم على حق وعلى الحضارة أن تخفف من متطلباتها اللئيمة ومن مؤامراتها، كي يقدر هؤلاء الدراويش افتراضياً على إنتاجها، وهذا أمر أثبت الواقع بسيرورته اليومية على مقدرة هؤلاء إنتاج ما هو عكس الحضارة، ولم تعد تفيد التفاصيل والمبررات في شيء، فالحضارة شأن معاير بإنتاجيته الإيجابية في سبيل سعادة البشر، بحيث يمكننا اعتبار التخلف هو حضارة أيضاً ولكنه معايرة بإنتاجيتها السلبية في سبيل “سعادة البشر” أيضاً، حيث تبدو الإمكانية فعالة وحتى رشيدة في بعض التنظيرات الثقافية، حيث يتم تجاهل العطب مع تجاهل الاستعدادات لإنتاج حضارة إيجابية. فالاستعدادات مسألة إرادية، حيث أن هذه الشعوب لا تفتقد إلى الإرادة فقط بل تفتقد إلى القناعة في اعتمادها عبر التنازل الإرادي عن الأمجاد وصناعة أمجاد جديدة قابلة للمعايرة في خضم التنافس بين الشعوب على إنتاجها، والتنافس شأن مؤسس في إنتاج الحضارة الإيجابية يقابله العداء في حالات إنتاج الحضارة السلبية، حيث لا يبدو الفارق في الإمكانية بين الشعوب بل بالإرادة التي تشكل حالة المعرفية القابلة والقادرة على ترك الأمجاد لشأنها عبر تحسس إمكانيات الفناء والإتجاه العملي إلى الإنتظام والخروج من الفوضى.

فإنتاج الحضارة هو عملية منهاجية فهو ليس ظهور عالم هنا ونطاسي هناك، إنه عملية تستدعي التناغم مع المعرفة الكونية بوصفها معرفة فقط. وفشل النخب في إعداد شعوبها لإنتاج الحضارة، لا يعني البتة إشعال فتيل العداء مع الكون عبر إنشاء مسائل وهمية (ومنها الهوياتوية)، تعرقل إنتاج الحضارة عند الآخرين، لإن عواقب تشعيل هكذا فتائل سوف تكون مدمرة بواسطة الفارق المعرفي، فاستبدال التنافس بالعداء يؤدي بالضرورة إلى طحن هؤلاء العامة (ألأكثرية) الذين غرقوا في التفاصيل “الهوياتية” فليس لهم من متسع في منهاجيتهم المفروضة عنفاً للإندماج المعرفي في العالم/ الدنيا من جهة، مفعلين عقد اضطهاد تبشيرية تغذيها تنظيرات الاكتمال المعرفي من جهة ثانية، لتتحول إلى تجمعات عنفية على صعيد البنية الداخلية لها، بمعنى أن أداءها هو عنفي تجاه نفسها قبل عنفها تجاه الآخر عبر معايير ومحاكمات تنحصر بتصورات عن الفضيلة كالحياء العام، وخدش المشاعر، ومفاهيم الحشمة والاحتشام وتنظيم الكبت…إلخ..

وهي جميعها إمكانيات لا يتم تحويلها إلى إبداعات أو مساهمات حضارية، ولعل مثال أبناء هذه الشعوب الذين ينتقلون إلى عالم أكثر معرفة ويندمجون به يبدو مناسباً حول تحويل الإمكانية إلى استعداد للإنتاج الحضاري ولكنه مثال يتشابه مع حالة ظهور عالم هنا ونطاسي هناك، فظهور أحمد زويل مثالاً لم يحرك ساكناً في البنية المعرفية، وحتى مساعية “الخيرية” في تأسيس معهد هنا ومركز أبحاث هناك قد شكلت قطعاً مع البنية المعرفية/ التعليمية العامة ودخلت مرحلة الترويض فوراً. ومن هذا المثال ندخل إلى السؤال الثاني حول القدرة على احتمال أو تحمل الحضارة كما هي موجودة في الدنيا، دنيانا نحن البشر على هذه الكرة الأرضية، فالشعوب التي زحفت إلى عالم الحضارة لجوءً وهجرات تاركة من تبقى منها في البلاد يمارسون رفض الحضارة ناهيك عن إنتاجها، فهم غير موافقين عليها بالأساس تدعمهم في هذا الخيار نخبهم “المستنيرة” التي تنظّر لواقعهم المأساوي على أسس بعيدة عن سؤال أزمتهم وانسداد أفقهم في درامة  ثقافية تدليسية تقود الى ضياع يحكمه العنف الطليعي، حيث لا تبدو هذه التنظيرات أكثر من ذرائع وتبريرات لهذا العنف، في مقارنة مساواتية هبلاء مع أحداث حصلت سابقاً وأدت الى نهايات سعيدة مثل الثورة الفرنسية، أو الحرب الأهلية الأميركية، أو شخصيات مثل تشي غيفارا أو غاندي أو ماوتستونغ..إلخ..

ليبدو هذا كله محاولة للتعامي عن الإنجاز المعرفي الكوني وإقرار واجب التملص (الملصان بالعامية) منه ومن استحقاقاته، إنه حالة واضحة من عدم الاستعداد لتحمل الحضارة والعيش فيها عبر وأد الدعوة للإندماج في العمليات المعرفية الكونية، وقطع الطريق على رعاية لإمكانيات هذا الولوج  وإلا فإن المعرفة موجودة لمن استطاع إليها سبيلا، وقد شهدنا في نصف القرن الماضي دخولات كثيرة لشعوب ومجتمعات إلى خضم ممارسة العمليات المعرفية الكونية وبالمعنى التنافسي شعوب لها خصوصيات وتراث ولكنها التحقت بالمفاعل المعرفي الكبير لهذه الكرة الأرضية، لنلحظ في المقابل أن هناك شعوباً قد قطعت الطريق على 

نفسها (بواسطة نخبها على الأقل) عبر تبني ثقافة جهالية تراكمت تحت شعارات التنوير التدليسية، لتراكب أولويات خاطئة  ممارساتيا وواقعياً في احتدام عدائي إلغائي ومفصلي بين الفضيلة والصواب.

المشكلة هنا هي عدم القبول بالحضارة نفسها قبل التفكير بإنتاجها، على الرغم من هذا التمثل والخضوع لمنتجاتها الاستعمالية واستهلاكها، فقد يكون هناك شعوب هي بالفعل ليست قادرة على إنتاج حضارة من عندياتها وهذا ليس عيباً أثنياً، ولكن العيب الحقيقي هو التملص من دخول مفاعل المعرفة الكوني وتجريب الإمكانيات في التنافس الإبداعي، فالمعرفة ليست ممنوعة على أحد، وشكل ومضمون الشعوب المنتجة للحضارة ليس أحجية، وهذا ما يشكل العقبة الأولى والنهائية لمحاولة ممارسة الحضارة، حيث لا إمكانية لإنتاجها وفي نفس الوقت رفض الدخول فيها، حيث تطلب هذه الشعوب من الشعوب المنتجة للحضارة التباطؤ وحتى العودة إلى حيث هي لبدء سباق جديد، ولكن حتى هذا المثال يبدو هزلياً وعبثياً الى أقصى حد، فحتى لو عادت الشعوب المنتجة إلى بداية جديدة إلإ إن الشعوب غير المنتجة سوف ترفض الدخول إلى المفاعل المعرفي كشرط تأسيسي لهذا السباق التنافسي لأسباب تتعلق بالفضيلة، وهي أسباب من خارج الموضوع برمته.

الاختيار واضح وهو إما إنتاج حضارة معايرة بمعايير هذه الدنيا، أو تبني الحضارة الموجودة والمجربة، وفي الحالين تبدو الشعوب القاعدة عن الإنتاج رافضة، لتتحول الى شعوب مستجدية ولكن بشروط  (شحاد ومشارط)، أحدها العنف وهو تصور سهل وتنبل ومحاولة كارثية لإلغاء الآخر والاستراحة من “شروره”.

ليس هناك شعوباً لا تستطيع إنتاج حضارة دنيوية، حضارة عاقلة أو جاهلة، سلبية أو أيجابية، خيرة أو شريرة، جميلة أو بشعة، ذكية أو غبية، حضارة تؤلف بين الشعوب والأقوام وتتجاوز الفوارق غير المعرفية، ولكن هذا مرهون بالإرادة المرهونة بدورها بالثقافة (لا أقصد هنا المنتجات الثقافية لوحدها) فإذا كانت الثقافة مرتبطة عضوياً بالإرتقاء كانت الاستعدادات متوفرة لإنتاج الحضارة أو لتحمل تبعات ممارسة الحضارة الكونية الموجودة، وإلا كان الفناء سبيلا.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن نجيب نصير

نجيب نصير
كاتب وسيناريست سوري عريق، كتب العديد من المسلسلات السورية التي لاقت إقبالاً كبيراً، تمتاز أعماله بطابع خاص، ومن أبرزها: نساء صغيرات، أسرار المدينة، الانتظار، تشيللو، فوضى، أيامنا الحلوة، وغيرها.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *